سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

فطور في الصين

كان السكرتير الصحافي للرئيس حافظ الأسد، جبران كورية، رجلاً من الرعيل القديم القويم المستقيم. وكان غاية في الأدب، وأكثر منه في التواضع. التقيته مرات قليلة جداً، إما في مكتبه في القصر الجمهوري، ومرة خلال زيارة الرئيس حافظ إلى باريس.
من كثرة أدبه كان كورية يدلي بملاحظاته وكأنه يخاطب إنساناً غيرك. وذات مرة لم يكن هناك غيرنا في مكتبه، فأخذ يحدث نفسه قائلاً، وكأنه يستكمل حديثاً سابقاً: «لكن ماو تسي تونغ عندما وصل إلى الحكم كان الصينيون حفاة يصنعون أحذيتهم من الخشب». وكان كورية يسجل عتبه على ما أكتبه عن ماو ومسيرته الكبرى ومن راح ضحاياها من 60 مليون إنسان.
البعض - مثل الصديق الراحل - رأى أن ماو ضحى بستين مليوناً من أجل المليار الباقي. في ليلته الأخيرة رئيساً، اقترح عمر البشير على ضباطه قتل ثلث المتظاهرين السودانيين، بحيث يبقى هو ومن يبقى. أنا يؤسفني أنني لم أمر بأي تنظيم آيديولوجي، ولذلك، لا أومن بقتل أحد من أجل أحد. وأومن أن الحياة ممكنة من دون ذبح الملايين.
كان يروي لي صديق حقوقي عائد من الصين أنه شارك في مؤتمر قانوني حضره 2000 شخص. وصباح كل يوم يذهب لتناول الفطور فيجد أنه في طابور لا نهاية له. وعندما يبلغ المقصف يجد نفسه أمام كرم لم يعرفه في أي مكان. وخارج نشاطات المؤتمر ذهب إلى مطاعم كثيرة ورآها ملأى بأهل البلاد.
هذا ما كنت أحلم به للناس والبلدان. إما أن يكونوا شيوعيين مثل صين اليوم، أو ما شاءوا أن يكونوا، فهذا خيارهم. أنا ضد الجوع والفقر والقتل في أي مكان، وتحت أي ذريعة. ولست من السذاجة بحيث لا أدرك موقع ماو في التاريخ، أو كيف كانت الصين قبله، أو كيف كانت روسيا قبل لينين. لكنني أعرف أن كل ذلك العنف كان مجرد إرهاب وإبادة يمكن الاستغناء عنهما. لقد تقدمت دول كثيرة من دون شغف الدماء.
الكبائر والصغائر ليست مسموحة للكبار. بعد مجاعات طويلة، ها هم نحو 800 مليون صيني اليوم على مستوى الكفاية. وقد حققوا ذلك من دون أي عنف أو إبادة. جميع زعماء العنف، يميناً ويساراً، لم يحققوا غايات النمو والتطور. ظل الاتحاد السوفياتي دون قمح، وظل عسكريو الأرجنتين والبرازيل وسائر أميركا اللاتينية، في جوار خط الفقر. وبينما تدخل قوافل المساعدات الدولية إلى فنزويلا الجائعة، يعد نيكولاس مادورو شعبه بثلاثة ملايين بندقية مؤكداً «أنها متوافرة». ما هو غير متوافر الرغيف، والكهرباء، والمياه غير الملوثة.
مسكينة الشعوب التي تقع تحت حكم رجال لا يؤمنون بحق الشعوب في الحياة والرغد. كان البشير جالساً بين صناديق المال عندما سأله ضباطه ما العمل؟ فتحدث عن قتل ثلث المتظاهرين، وفقاً للصحف. اطلبوا النموذج الأفضل، حتى في الصين.