داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

من «الجاسوس المستحيل» إلى «سارق السماء»

بعد 54 سنة من إعدام الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، في ساحة المرجة بدمشق، في عهد الرئيس السوري الراحل أمين الحافظ عام 1965، عادت قصة الجاسوس الشهير إلى وسائل الإعلام عقب معلومات متضاربة في موسكو عن محاولات إسرائيلية لاستعادة رفاته.
لم تتوقف جهود تل أبيب لاستعادة رفات الجاسوس طوال سنوات بضغوط أميركية فاشلة. وتذرعت الحكومة السورية بأنها لا تعرف مكان دفنه، لأنه أُعدم قبل تسلم حافظ الأسد السلطة، وتم نقله أكثر من ثلاث مرات من قبر إلى آخر في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، خشية قيام تل أبيب بعملية خاصة لاستعادة رفات كوهين اليهودي المصري الأصل.
حتى اليوم فإن الجهود الإسرائيلية، بالتعاون مع جهود روسية غامضة، أثمرت عن استعادة ساعة كوهين الثمينة، وتم، كما أعلنت أرملة كوهين، تعليقها عند مدخل مبنى الموساد نفسه. وقد توجهت السيدة نادية أرملة إيلي كوهين، عراقية الأصل التي هاجرت إلى إسرائيل في عام 1951، برسالة متلفزة إلى الرئيس السوري الحالي بشار الأسد تناشده فيها إعادة رفات كوهين. وكانت نادية قد ظهرت في برنامج تلفزيوني إسرائيلي مؤخراً ذكرت فيه أنها لم تكن تعرف أن زوجها جاسوس إسرائيلي حتى إعدامه.
من هو هذا الجاسوس؟ إنه آلياهو بن شاؤول كوهين من مواليد الإسكندرية في مصر سنة 1924، وجندته إسرائيل للتجسس في سوريا، حيث نجح في إقامة علاقات وثيقة مع التسلسل الهرمي للسلطتين السياسية والعسكرية، وأصبح المستشار الأول لوزير الدفاع. وكان كوهين قد انضم إلى منظمة «الشباب اليهودي» في الإسكندرية في عام 1944، ثم هاجر والداه وثلاثة من أشقائه إلى إسرائيل في عام 1949، بينما تخلف هو في الإسكندرية وعمل تحت قيادة إبراهيم دار، وهو أحد كبار الجواسيس الإسرائيليين، في تجنيد العملاء وتنفيذ سلسلة من التفجيرات في بعض المنشآت الأميركية في القاهرة والإسكندرية لإفساد العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، وتم إلقاء القبض على الشبكة الجاسوسية في عام 1954 في القضية الشهيرة باسم «فضيحة لافون»، إلا أن كوهين نجح في إقناع المحققين ببراءته، وسافر إلى إسرائيل عام 1955، ثم عاد إلى مصر التي وضعته تحت المراقبة، واعتقلته مرة أخرى في عام 1956 مع بدء العدوان الثلاثي على مصر، وطردته عام 1957 خارج البلاد فهاجر إلى إسرائيل، وهناك بدأ نشاطه الذي أهّله للسفر إلى سوريا عن طريق الأرجنتين، حيث تعرف إلى الملحق العسكري السوري أمين الحافظ الذي أصبح في عام 1963 رئيساً لسوريا حتى عام 1966.
وقد أنتجت «هوليوود» فيلماً عن كوهين في عام 1987 تحت عنوان «الجاسوس المستحيل» (The impossible spy)، وصورته في الأرض المحتلة. وتطرق المسلسل التلفزيوني السوري الشهير «باب الحارة» في جزأيه الرابع والخامس إلى كوهين الجاسوس القادم من الأرجنتين الذي ارتبط مع قيادات مهمة في الدولة وصلت إلى إهدائه معطفاً من الفرو إلى زوجة الرئيس الأسبق أمين الحافظ!
وذكرت مصادر استخبارية إسرائيلية أن المعلومات التي نقلها كوهين إلى الموساد ساعدت القوات الإسرائيلية في حرب 1967 واحتلال هضبة الجولان.
ولم يكد الرأي العام العربي يصحو من قضية إيلي كوهين في دمشق، حتى فوجئ بقضية أخرى ينفذها الموساد في بغداد عام 1966 في عهد الرئيس العراقي الراحل عبد الرحمن عارف، وهي القضية المعروفة عن تهريب طائرة «ميغ 21» عراقية إلى إسرائيل، في وقت كانت فيه هذه الطائرة مصدر رعب لجيوش الغرب وأميركا. ومثلما فعلت «هوليوود» مع الجاسوس كوهين، أنتجت فيلماً عنوانه «سارق السماء» (Steal the sky) عن قصة الطيار العراقي المسيحي منير روفا الذي جنده الموساد لاختطاف طائرة «ميغ 21»، والذهاب بها إلى مطار «حتسور» العسكري شمال فلسطين المحتلة مقابل 50 ألف دولار وراتب شهري له وأسرته!
بدأت عملية منير روفا بتكليف ممثل الموساد في طهران يعقوب نمرودي (في أيام الشاه)، وعميل الموساد في العراق رجل الأعمال يوسف شماش، الذي كان على علاقة عاطفية مع فتاة عراقية شقيقة زوجة الطيار في سلاح الجو العراقي منير روفا. وقد وجد العميل أُذناً صاغية لدى الطيار الخائن، ووافق على خطف طائرة «ميغ 21»، والطيران بها إلى إسرائيل. وقبل تنفيذ العملية استغل الطيار مرض شقيقة زوجته وحاجتها إلى العلاج في أوروبا فحصل على إجازة لمرافقتها، وتم الاجتماع مع ممثل الموساد في أثينا، وكان رئيس الموساد يجلس على طاولة مجاورة ليفحص بنفسه الهدف الاستخباري. وعرض مندوب الموساد على منير روفا 50 ألف دولار فوافق على الفور، مع أن المندوب كان مخولاً بمضاعفة ثمن الخيانة. وقبل هربه مع الطائرة هربت أسرته من بغداد إلى أوروبا، وكادت زوجته تكشف العملية، حين أعلنت قبل هروبها عن بيع محتويات وأثاث بيتها! وقيل وقتها إن رجال الموساد كادوا ينتفون شعر رؤوسهم، خشية فشل العملية بسبب بيع الأثاث! وتم إنجاز التفاصيل مع الطيار، وخط سير الطائرة، وتخفيض ارتفاعها فوق الأراضي الأردنية تفادياً لجهازي الرادار السوري والأردني، والتخلص في صحراء الأردن من الصواريخ التي كانت الطائرة تحملها، لأنها كانت مكلفة بواجبات في شمال العراق، لكي يكفيها الوقود لبلوغ المطار الإسرائيلي. واختار الموساد أغنية المطربة اللبنانية الراحلة صباح «مرحبتين... مرحبتين» كلمة السر التي تذاع من «صوت إسرائيل» باللغة العربية ثلاث مرات في اليوم المحدد لتنفيذ العملية. وخلال ساعة واحدة وصل من بغداد إلى مطار «حتسور» الإسرائيلي بحماية طائرتي «ميراج» إسرائيليتين.
وكشفت القناة التلفزيونية العاشرة في تل أبيب بعد ذلك أن زوجة الطيار الخائن لم تكن تعرف بخطة زوجها، وكادت تصاب بانهيار عصبي وشتمته علناً حين التقت به بعد العملية. ولم يكتف الطيار باختطاف الطائرة، وإنما خطف معه كُتيباً سرياً عن خصائصها. وقال مسؤولون عسكريون إسرائيليون إن «الميغ» العراقية زودتهم بمعلومات حساسة ومهمة جداً حول مزاياها ونقاط ضعفها، وقد تم تسليمها إلى الولايات المتحدة لكشف أسرار أهم طائرة قتالية لدى الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة.
أما مصير الجاسوس العراقي، فكان الهجرة من إسرائيل إلى كندا بعد ثلاث سنوات من عدم التكيف، ووجد الموساد له عملاً كمدير لمحطة وقود هناك وسط سرية تامة وخوف دائم. ومات في منزله بالسكتة القلبية في شهر أغسطس (آب) 1998، وهو الشهر نفسه الذي فرّ به مع الطائرة إلى إسرائيل في عام 1966، وقال عنه مئير عميت رئيس الموساد الأسبق «إن منير روفا ظل يشعر بالخزي وتأنيب الضمير حتى توقف قلبه ومات».
قصتان من بغداد ودمشق تؤكدان أن نهاية الجواسيس والخونة ليست كما تُشاهد في أفلام «جيمس بوند».