إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

عسل نوتردام

تنفّس الفرنسيون الصعداء ثلاث مرات خلال الأيام القليلة الماضية. الأولى لأن واجهة كاتدرائية نوتردام لم تتداعَ بسبب الحريق. والثانية لأن النوافذ الزجاجية التي تعتبر تحفاً فنية لم تتصدع وتنفجر بفعل الحرارة. والثالثة لأن نحلات الكنيسة ما زلن بخير ولم تصلهن ألسنة اللهب.
والثالثة حكايتها حكاية. إنهم يربونها فوق سطوح نوتردام. وهناك 200 ألف نحلة تعيش في العلالي، لا يقلق هدوءها أحد، تصنع عسلها في خلايا معتنى بها، دون أن تأبه لآلاف السياح الذين يدورون في الأسفل، يلتقطون الصور ويضجّون ويطنّون مثل الذباب.
في الحي الذي ولدت فيه ببغداد، كان هناك من يربّي الطيور فوق سطوح المنازل. إنهم «المطيرجية». ويقال إن المحاكم لم تكن تقبل شهادتهم لأن المطيرجي يقضي وقته في موقع استراتيجي يطلّ منه على حريم الجيران. كما أن من عادته أن يبالغ في وصف مهاراته، مثل الصياد. أي أنه من النوع القادر على تطيير الفيَلة. أما العسل فكان يأتي به رجال ينزلون إلى العاصمة من قرى الشمال، يبيعونه عند مفارق الطرق، مثلما يبيعون أنواع الأجبان المحلية التي لا يتقنها أحد مثلهم.
في مصر، دخلت مفردة «عسل» قاموس الغزل. مثلها مثل «قشطة». وفي العراق كانوا يصفون المرأة الباهرة البياض بأنها مثل جبنة البيزة. وهو نوع لذيذ تشتهر بصناعته الموصل وقرى الشمال وبعض مناطق شرق سوريا. ولعل تسمية «بيزة» تحريف لكلمة «بيضا» التي يتعسّر لفظها على غير الناطقين بالضاد. وفي البصرة حيث بساتين النخيل يصفون الجميلة ذات البشرة الفاتحة بالجُمّارة، نسبة إلى ذلك الجزء الأبيض من قلب النخلة. وهو مادة لذيذة من السليلوز تصلح للأكل. وفي فرنسا يبيعونها مملحة في مرطبانات مثل الطرشي.
ومنذ تلك الأزمان المغرقة في رومانسيتها تطوّر الغزل واقتحمته مصطلحات قتالية. فالجميلة في لغة شباب اليوم «صاروخ». وهذا يحيلنا إلى أغنية بغدادية شهيرة جاء فيها: «بعيونك الواسعات موزر صدتني». و«موزر» شركة إنجليزية كانت تصنع بندقية بهذا الاسم، لا تخطئ التصويب، عرفها العراقيون عند الاحتلال البريطاني الأول، لا الثاني، لبلادهم.
وإذن، فقد نجت نحلات نوتردام من الحريق. وهي من النوع الأوروبي، أي تحمل هوية شينغن. ويتميز هذا النوع بأنه لا يتخلى عن خلاياه مطلقاً. وبحسب مسيو جيان، النحّال المسؤول عنها، فإنها لا تملك رئات لكن ثاني أوكسيد الكربون يجعلها تنام نوم العوافي. وفي حال اندلع حريق فإنها تستشعر الدخان وتسارع إلى تلويث نفسها بالعسل. كما تهبّ لتحمي الملكة.
منذ التأكد من نجاة نحلاته، تسلّم النحّال برقيات تهنئة من جميع أنحاء العالم. من أميركا واليابان وجنوب أفريقيا والبرازيل. إنه صاحب الفكرة المجنونة التي نبعت في رأسه قبل سبع سنوات وقرر أن ينفذها مهما حصل. نصب ثلاث خلايا للنحل فوق أشهر صروح باريس وراح يجمع 75 كيلوغراماً من العسل كل عام، يبيعها للعاملين في الكاتدرائية.
يروي أحمد، وهو فلسطيني عاش فترة من التشرد عند مجيئه إلى باريس، أنه كان يتخذ من زاوية دافئة خفية محاذية للكنيسة مكاناً للنوم وقضاء الليل. ولكي يحافظ على مملكته السرية فإنه كان يزعم أمام رفاقه بأنه يبيت عند صديقة فرنسية «عسل» وقعت في غرامه. لكن أحد الخبثاء تتبعه ذات ليلة على أمل رؤية الفرنسية فاكتشف الخدعة. ومن يومها صار اسمه «أحمد نوتردام».