حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

الجزائر ـ السودان... عندما يمسك الشارع زمام القيادة

اللبنانيون الذين عاشوا الأسابيع القليلة التي سبقت يوم 14 مارس (آذار) 2005، يشاهدون الآن بفرح كيف أن الشارع الجزائري يعيد رسم تلك المشاهد بقوة أكبر وأوضح وأدق، والأهم بوعي كامل بالأهداف: التغيير الكامل للنظام السياسي وللطبقة السياسية... ويمضون خطوات متدرجة بحسم سياسي لا يلين افتقده الشارع اللبناني في عام 2005.
منذ اللحظة الأولى تحولت ساحة الشهداء إلى قِبلة لتجمعات احتجاجية واعتصامات ليلية ومظاهرة حاشدة كل اثنين بذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري. في تلك الفترة تعرف اللبنانيون بأكثريتهم إلى رمزية عَلمهم الوطني، وبألوانه كانت كل الشعارات التي تم رفعها، وكان مشهداً مألوفاً لفاعاً بالأحمر والأبيض يلف الأعناق، أخرج ذات يوم السيد حسن نصر الله عن طوره! تحت ضغط الشارع قدم عمر كرامي استقالة حكومته ليلة 26 فبراير (شباط) 2005، وقال تحت قبة البرلمان لن أقبل أن تلتف دماء الحريري على رقبتي، في إشارة ولا أوضح إلى القتلة. التهب الشارع، الذي استفزه «حزب الله» يوم 8 مارس بمظاهرة شعارها «شكراً سوريا»، فالتقى تقريباً نصف لبنان في بيروت يوم 14 مارس. جموع شعبية وحّدتها المطالبة بالعدالة والحقيقة والديمقراطية، وباستعادة الاستقلال والسيادة والقرار الوطني الحر من مغتصبيه في الخارج والداخل.
لكن من لحظة خطاب «إلى اللقاء سوريا» وبدء مغادرة الجموع إلى مطارحها، حتى بدأ الانحلال والتشرذم واستدراج العروض. تقدم دور السماسرة وامتلأت الساحة بالمتسلقين فجرى كسر انتفاضة الاستقلال بوقفها في منتصف الطريق، وسقط شعار إسقاط إميل لحود رئيس النظام الأمني اللبناني، وفي النهاية ذهبت الأكثرية النيابية الموصوفة لتعيد انتخاب رئيس البرلمان نبيه بري المستمر في موقعه منذ عام 1992 قبل 27 سنة! وذهبت تلك المعارضة الرسمية إلى تكرار خطيئة حكومات «الوحدة الوطنية» وهي وحدة القادة الطائفيين والوجهاء بوجه الشارع والناس، والنتيجة أن الدين العام الذي كان بحدود الـ50 مليار دولار، تجاوز الـ100 مليار اليوم والبلد بات على حافة الانفجار، والذين حلموا في 14 مارس بالدولة المدنية والتزام الدستور وحكم القانون باتوا يعرفون من زمن أن دولة الحق والعدالة حلم معلق، والقوى الطائفية، «السيادية» لبعض الوقت، استخدمت الناس للوصول، ولا يمكن مطالبتها بأن تكون أداة تجديد وتطوير... وهي غير محرجة بالتعايش مع الدويلة والانتهاك اليومي للسيادة.
مدنيون، شباب ونساء ومن كل الشرائح والأعمار يتقاطرون تحت العَلم الجزائري، يهتفون للحرية وللحلم بقيام الجمهورية الثانية من صنعهم كعقلاء توحدوا من أجل التغيير. طوفان بشري غطى العاصمة والولايات، تميز بخطاب عقلاني في رفع المطالب دون تحريض. بدأ بمطلب رفض العهدة الخامسة، ورفض تمديد العهدة الرابعة، وعدم الأخذ بالمقترحات التي قدمها بوتفليقة للانتقال إلى الجمهورية الجديدة، كما تمّ رفض رموز المرحلة السابقة الذين شكلوا الفريق العائلي - العسكري الأمني - ورجال أعمال، تحكموا بالبلد من وراء الستارة باسم الرئيس المريض العاجز، فسطوا على المال العام وراكموا ثروات هائلة على حساب كل الجزائريين، وتباعاً تقدم شعار تغيير النظام. استقال الرئيس في ذروة الاختلالات التي أصابت كبار المسؤولين في الحزب الحاكم والحكومة وحزب جبهة التحرير الوطني، وانحياز الجيش إلى الموجة الشعبية.
في كل هذه المراحل كان هناك الرفض القاطع لأي انجرار إلى شعارات ومطالب لا يمكن للتحرك الشعبي إنجازها، فتم إسقاط محاولة جماعات من «جبهة الإنقاذ الإسلامية»، القفز على التحرك الشعبي بأخذه إلى الإضراب العام والدفع إلى ثنائية الشارع من جهة والجيش الوطني الشعبي من جهة ثانية، وتكرس الإصرار على الطابع السلمي المدني لانتفاضة قدمت مشهدية حقيقية عن ربيع العرب المطلوب، تمّ التعبير عنه بالشعار الذي رفعه المتظاهرون: «بطل واحد هو الشعب» ويتبلور تباعاً رغم المخاطر والصعوبات والمناورات، تيار سياسي مدني متعدد المشارب موحد في تطلعه لمستقبل الجزائر، الجمهورية الثانية الديمقراطية.
تزامن الحدث الجزائري مع اتساع الهبة الشعبية في السودان التي تنخرط فيها تجمعات مهنية نقابية وتجمعات سياسية تسعى أحزاب تقليدية من اليمين واليسار الالتحاق بها بعدما كسرت الهبة حالة الطوارئ، ولم يرهبها القتل، فاتسعت لتوحد مدن السودان وريفه؛ ما اضطر البشير حاكم السودان منذ ثلاثة عقود إلى طي مشروع التعديلات الدستورية التي تجيز له الترشح مجدداً ودون قيود، وهو وصل إلى الحكم نتيجة التحالف مع المرشد حسن الترابي وما ومن يمثل، ويُعدُّ المسؤول الرئيسي عن انفصال الجنوب المشروع الذي فشل المستعمر البريطاني في تحقيقه، وهو المسؤول عن حروب أهلية وقمع وجرائم طالت كل أقاليم السودان ولم تقتصر على دارفور. وبعد ثلاثة عقود من التسلط والفساد، وغياب الديمقراطية والحريات، وصل السودان إلى وضع اقتصادي اجتماعي معيشي كارثي، من أبرز عناوينه فقدان كامل للقمح والرغيف... وضع بات يُحاصر أجهزة القمع وليس أمام كبار ضباط الجيش الممسكين بزمام الأمور بشكل فعلي، وكثر منهم يبحثون عن ترتيب لخروجهم، إلا الاقتداء بالحالة الجزائرية لبلورة شكلٍ من الانتقال السلمي للسلطة.
هناك ما يشي بحالاتٍ سياسية مدنية جديدة يفرزها التحرك الشعبي، تبلور أدواتها القيادية وتخلق ميزان قوى جديداً، بديلاً عن المد الأصولي لـ«الإخوان المسلمين» وما تناسل من عباءة «الإخوان» من جماعات متطرفة، وهزيمة دولة «داعش» مؤشر لافت عن هذا التعديل في ميزان القوى العام في المنطقة. في هذا السياق، لافت جداً ما يجري في تونس بعد انفضاح مشروع حزب «النهضة»، سليل حركة «الإخوان المسلمين»، وانكشاف الدور الإجرامي لتنظيمه الأمني السري، الذي تم ربطه باغتيالات طالت قيادات تونسية وشخصيات مؤثرة في الحياة العامة؛ ما يبشر بتغيير إيجابي في الخريطة السياسية لتونس.
إذا عطفنا ما تقدم على خسارة حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي في تركيا أبرز معاقله، والنكسة التي لحقت بإردوغان وطموحاته، أمام استفاقة المناخ المدني العلماني؛ الأمر الذي يبدو معه أن ما قدمه هذا «الإسلام السياسي» من نموذج شعبوي مخادع بات أمام حائط مسدود، وهو غادر قطار الصعود نحو بداية أفول ستأخذ وقتها، لكن لن تتأخر... فإن المشهد العام سيقوى ويتوطد على مستوى المنطقة والإقليم؛ لأن نظام ملالي إيران المعزول خارجياً وشعبياً والمحاصر بالعقوبات لن يقوى على الاستمرار طويلاً وسيتعذر عليه النأي عن الجديد، وبالتالي فإن ملف السلبطة لن يتأبد، والمصير محتوم وتوقعه مؤخراً محمد خاتمي.