حازم صاغية
مثقف وكاتب لبناني؛ بدأ الكتابة الصحافية عام 1974 في جريدة «السفير»، ثم، منذ 1989، في جريدة «الحياة»، ومنذ أواسط 2019 يكتب في «الشرق الأوسط». في هذه الغضون كتب لبعض الصحف والمواقع الإلكترونية، كما أصدر عدداً من الكتب التي تدور حول السياسة والثقافة السياسية في لبنان والمشرق العربي.
TT

نتقارب كي نتقاتل

في القرن التاسع عشر، ولدت فكرة «الأمميّة» في أوروبا. القائلون بها تعدّدت أصولهم: الصناعي الإنجليزي ريتشارد كوبدن، والسياسي والخطيب جون برايت، دعَوَا إلى أممية ليبرالية بلا حمايات جمركيّة، لأنّ التجارة مفيدة لجميع المُتاجرين. الاثنان اعتنقا الفكرة التي سبقهما إليها آدم سميث: إنّ التجارة الحرّة تستبعد التوتّر بين الأمم، وتستبعد تالياً التفاخر القومي والثأر والكره والحسد. التركيز ينصبّ، والحال هذه، على المصالح المشتركة.
تلك الأممية لم تفتقر إلى أساس فلسفي: إنّه إيمان بالقانون الأخلاقي الذي يرى أنّ الصلاح كامن في الطبيعة الإنسانية ذاتها.
الاشتراكيون أيضاً كانت لديهم أمميتهم التي عبرت عنها الدعوة الشهيرة: «يا عمّال العالم اتحدوا». الأممية الأولى التي شكّلوها في 1864 ضمّت مثقفين وراديكاليين عماليين ونقابيين. وجوه ككارل ماركس والفوضوي الروسي ميخايل باكونين لعبوا فيها أدواراً مهمّة. أولهما كتب بيانها الحامل دعوتها. بعد اليوم لن تقف الحدود والولاءات القديمة دون مصالح الأكثريّات الساحقة من السكّان.
قبلهما كان الاشتراكي الطوباوي الفرنسي سان سيمون قد رأى الأمميّة نتاجاً لتقدّم العلوم والتقنيّة مع العصر الصناعي الجديد. في ربطه أطراف المعمورة المتباعدة سيكون ذاك التقدّم كافياً لإسعاد البشريّة وتبديد الفقر والتعاسة. مشروعٌ كبناء قناة السويس (الذي تحقّق في وقت لاحق) يلبّي هذا الغرض الجامع.
عبر التجارة الحرّة أو الثورة الطبقية أو القنوات والجسور، تراءت فكرة الأمميّة بوصفها وصلاً واتّصالاً. اليوم ثمّة اتّجاه شعبوي متعاظم لإنشاء أمميّة تقوم على الانفصال. غداً الاثنين يُفترض أن تشهد مدينة ميلانو في إيطاليا إحدى محطّاتها: وزير الداخلية ونائب رئيس الحكومة ورئيس «حزب الرابطة»، ماتيّو سالفيني، يستضيف أحزاباً من عشرين بلداً كي تخوض، ككتلة واحدة، الانتخابات الأوروبيّة في مايو (أيار) المقبل.
سالفيني كان قد زار وارسو والتقى «رفيقه» البولندي، زعيم «حزب القانون والعدالة»، جاروسلوف كاشينسكي، لتنسيق المواقف. قبل ذاك، وبما يخالف الأصول المَرعيّة، أفاض في تأييده «السترات الصفراء» في فرنسا، وفي التحريض على «حكومة رهيبة ورئيس رهيب» في باريس.
ستيف بانّون، منظّر دونالد ترمب وكبير استراتيجييه سابقاً، طاف، بدوره، العواصم الأوروبية لبناء أممية من قوميي أوروبا. كلّ من يقولون إن بلدانهم «أوّلاً» يتلاقون في مشروع سياسي واحد.
لا سالفيني، الذي يكره أوروبا، فسّر لسامعيه سرّ إصراره على تمكين موقعه في برلمانها المكروه، ولا بانّون فسّر كيفيّة التوفيق بين «أوّلاً» الفرنسيّة كما ترفعها مارين لوبين، و«أوّلاً» الألمانية التي يرفعها «حزب البديل»، فضلاً عن «أوَّلات» كثيرة عددها عدد البلدان نفسها.
والواقع أنّ فكرة «الأممية القومية» هي نفسها فكرة متناقضة ذاتيّاً: إذ كيف الجمع بين إضعاف الحدود، مما تؤكّده الأمميّة، وتعزيز الحدود الذي تؤكّده القوميّة، أو بين التشديد على الجذور الإنسانيّة المشتركة والتشديد على الجذوع القوميّة المتباينة؟
وكيف مثلاً سيتوافق سالفيني، المعجب بفلاديمير بوتين، وكاشينسكي الذي يعبّر عن الحساسية التاريخية لبولندا حيال روسيا والروس أجمعين، لا حيال بوتين فحسب؟ وكيف، استطراداً، وبغضّ النظر عن الأمزجة والعواطف الشخصيّة للاثنين، ستتوثّق عرى الصداقة بين «أميركا أوّلاً» الترمبية و«روسيا أوّلاً» البوتينية؟
أغلب الظنّ أنّ أمميّة القوميين المزعومة لا تقود إلا إلى نزاعات، إن لم يكن إلى حروب. فهي دعوة للانفصال المتنامي عن كلّ آخر، قوميّاً كان أم غير قوميّ، أو أنّها رقصة من التعرّي المتواصل في عالم من الخلاء المُقلق. وسيرة سالفيني، المتبرّئ من أوروبا وعملتها، ومن الهجرة واللجوء، ومن العولمة والتجارة الحرّة، إنّما بدأت بالتبرؤ من إيطاليا نفسها: فماتيّو الشابّ كان في السابعة عشرة عام 1990. حين انتسب إلى «رابطة الشمال» في ظلّ مؤسّسها أومبرتو بوسّي. حينذاك كانت «الرابطة» تنادي بـ«استقلال» إيطاليا الشماليّة عن جنوب البلاد الفقير، مستخدمة اسم «بادانيا»، الذي يُطلق على سهل في الشمال، اسماً لدولتها الموعودة.
فهنا أيضاً الآخر هو الجحيم، وإن بمعنى يغاير ذاك الذي قصده جان بول سارتر.
الجحيم، في أغلب الظنّ، يتّسع لكثيرين لم يصلوا بعد.