بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

سلامٌ لكل أم بطل

بداية الأسبوع الماضي، لسبب لستُ أدريه، فاجأتني الذاكرة بكلمات «أم البطل» ولحنها الجامع للنّاي الحزين في المستهل، ثم الساطع بإيمان كل أمٍ يصدع القلب منها بإجلال في وداع ابنها: «ابني حبيبي يا نور عيني، بيضربوا بيك المثل، كل الحبايب بتهنيني، طبعاً دا أنا أم البطل». لِمَ فتحتْ ذاكرة خواتيم العمر تلك الصفحة، تحديداً، من ذلك الدفتر؟ لستُ أعلم. حتى مناسبة يوم الاحتفاء بالأم، لم أكن مدركاً أنها سوف تمر خلال يومين أو ثلاثة. ثم إنها ليست أيام ذكرى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، التي أهدت خلال معاركها الأم شريفة فاضل ولدها شهيداً لتحرير تراب مصر، واسترداد كرامة العرب، فصارت «أم البطل»، وكانت الأنشودة الرائعة. مع ذلك، لم أستطع مقاومة الاستماع لكلمات الشاعرة نبيلة قنديل، تسطع بصوت السيدة شريفة فاضل (فوقية محمود أحمد ندا)، حفيدة المقرئ أحمد ندا، على وقع لحن الموسيقي الكبير علي إسماعيل، فاستمعت: «يا مصر ولدي الحر، اتربى وشبع من خيرك، اتقوّى من عظمة شمسك، اتعلم على إيد أحرارك، اتسلح بإيمانه واسمك، شد الرحال، شق الرمال، هدّ الجبال، عدّى المحال، زرع العلم، طرح الأمل، وبقيت أنا، أم البطل».
***
نعم، مصر هي المُخاطبة، إنما على الأرجح، لن يزعجها، أو شعبها، أن يضع كل عربي وعربية اسم بلدهما مكانها، وسوف يجد كلٌ منهما أن الروح تحلّق في فضاء «أم البطل»، وتسبح مع هدير أمواجها، كأنما الشهيد سيد بدير، نجل شريفة فاضل وزوجها السيد بدير، هو ابنهما أيضاً. كيف لا، والتأكيد آتٍ يقول: «يا مصر ولدي الحر، العالم وصلت أخباره، وشجاعته وتحريره لأرضه، اتلموا إخواته وأعمامه، من كل بلد عربي، الكل قال، باسم النضال وقفة رجال». من كل بلد عربي؟ نعم. هل، إذنْ، ثمة من يزعجهم إنْ التقى العرب كلهم على اتحاد كلمتهم، والوقوف «وقفة رجال» كأنهم «رجل واحد»؟ بكل تأكيد. الذين يؤرقهم هكذا موقف عربي أكثر من طَرف، ولئن قيل منذ القِدم إن «شر البليّة ما يُضحك»، فإن من طُرف هذا الزمان أن الأطراف التي لن يرضيها مطلقاً تلاقي العرب، هي ذاتها تخوض فيما بينها معارك كثيرة، ليس واضحاً على وجه اليقين، أيها حقيقي، وأيها ذرٌّ للرماد في الأعين. خذ، مثلاً، حروب طهران - تل أبيب - واشنطن الكلامية، وتأمل في هجمات تركيا الإعلامية ضد إسرائيل، أو العكس، ثم انظر، كعربيٍ، ما سوف تحصد، لا شيء إطلاقاً ينبئ أن ما بين هذه الأطراف من معارك يريد الخير للعرب تحديداً، بما في ذلك ما يُسمى «العقوبات الاقتصادية»، التي ربما تقصم ظهور الناس بالفعل، لكنها ليست تطال ظهر الحاكم في قُمّ وأركان حكمه.
أمن عجب، إذن، إذا تجاوز ظلم التطاول على العرب في عقر ديارهم كل مدى؟ كأني أسمع صوت علي محمود طه يهتف ملتاعاً: «أخي جاوز الظالمون المدى»؟ ربما، لكن ترى لو أن مبدع «الجندول» عاش هذا الزمان، أي مدى كان سوف يرى ظلم غير العرب لأمة العرب يتجاوزه؟ وهل العيب في زماننا أم هو فينا؟ دع الجواب للإمام الشافعي:
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا .. وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
وَنَهجو ذا الزَمانَ بِغَيرِ ذَنبٍ .. وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ .. وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا
ألم يزل عجب نفرٍ من الناس يقرع، كما صليل جرس صُنع من نُحاس أصيل، إن ارتفع صوتان في آنٍ واحد يطالبان دمشق باعترافين: سيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، وسيادة كردية على أرض شرق سوريا؟ أمحض مصادفة هي، أم أن المصادفات لا مكان لها في ساحات اللعب السياسي، وجبهات التلاعب بمصائر الشعوب؟ ليس لأحد أن يقلل من أهمية دور «قوات سوريا الديمقراطية» في دحر تنظيم «داعش» من شرق سوريا، ولا من حجم تضحيات عناصرها، لكن خطايا نظام بشار الأسد ليست مبرراً للبدء في نهش جسم سوريا وتقطيع أوصال بلد طال زمن معاناته. بالقياس ذاته، بوسع الرئيس دونالد ترمب توقيع ما شاء من مراسيم الاعتراف لتل أبيب بسلطتها على الجولان، إنما لن يستطيع أي طرف منع كل أم أودعت تراب الجولان، أو أي أرض عربية، جسد ابنها أن تصدع بإيمان:
«ابني حبيبي يا نور عيني, بيضربوا بيك المثل, كل الحبايب بتهنيني, طبعاً دا أنا أم البطل»
***
حقاً، سلامٌ لكل أم بطل، في كل زمان وكل مكان.