د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

أبشر بطول سلامة يا «بوينغ»

تأسس مصنع «بوينغ» لصناعة الطيارات قبل أكثر من مائة عام، ومنذ عام 1916 حتى هذا اليوم والشركة الصناعية مستمرة في تصنيع الطائرات، وهي حقبة مرت خلالها الشركة بمراحل؛ منها الحربان العالميتان الأولى والثانية، وزودت الجيش الأميركي بالطائرات لفترة طويلة، كما أنها بدأت أول بريد جوي دولي في الولايات المتحدة. ومع الهيمنة المطلقة لهذه الشركة عالمياً، قررت بريطانيا وفرنسا وألمانيا بدء تحالف يهدف إلى إنشاء مصنع آخر للطيران في عام 1970، ويهدف إلى إنهاء السيطرة الأميركية على هذه الصناعة المهمة، وأسفر هذا التحالف عن ولادة «إيرباص» العملاق الآخر لصناعة الطائرات. واليوم تشكل هاتان الشركتان 99 في المائة من الحصة السوقية للطائرات التجارية الكبيرة، و90 في المائة من سوق الطائرات بشكل عام، التي يبلغ حجمها نحو 190 مليار دولار. وتبلغ قيمة الشركتين السوقية أكثر من 310 مليارات دولار؛ الرقم الذي تضاعف 6 مرات منذ عام 2000، مع زيادة الإقبال على الرحلات الجوية، الذي سيزداد بلا شك مع بقاء احتكار الشركتين لصناعة الطائرات.
وصناعة الطائرات مزدهرة بلا شك، وتبقى شركات الطيران في قائمة الانتظار عدة سنوات حتى تحصل على مبتغاها من الطائرات. وفي الوقت الحالي تُصنع طائرة واحدة كل 5 ساعات، ووصل عدد الطائرات المشغلة في العالم لأكثر من 21 ألف طائرة. وكان العام المنصرم استثنائياً لشركة «بوينغ» تحديداً، فقد كسرت - لأول مرة في تاريخها - حاجز 100 مليار دولار في المبيعات، وباعت خلاله 806 طائرات، ووصل فيه هامش ربحها إلى 10.3 في المائة، بعد أن كان 5 في المائة في عام 2013، بينما استمر هامش ربح منافستها على متوسط 3 في المائة خلال السنوات الماضية.
وتوقعت «بوينغ» أن تبيع في عام 2019 أكثر من 900 طائرة، وأن تصل العوائد إلى ما يقارب 20 دولاراً للسهم. وكانت طائرة «بوينغ» من طراز «737 ماكس 8» هي النجم الساطع لشركة «بوينغ» حتى الحادث الأخير للطيران الإثيوبي، فقد صنعت منه الشركة أكثر من 370 طائرة، ولديها في قائمة الانتظار طلبات لما يقارب 4700 وحدة أخرى. ولكن ما حدث للطائرة الإثيوبية خلال الشهر الحالي وسابقتها الإندونيسية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي (وكلتاهما من الطراز المذكور نفسه) قد يغير الكثير من الأمور.
فما تستند عليه الشركتان (بوينغ) و(إيرباص) هو الأمان العالي، فمعدل حوادث الطائرات خلال السنة الماضية كان حادثاً واحداً لكل 2.5 مليون رحلة! وهذا ما جعل سقوط طائرتين من الطراز نفسه خلال أقل من 6 أشهر مؤشر خطر للطائرة «737 ماكس 8»، فأعلنت كثير (إن لم يكن كل) من شركات الطيران إيقافها تشغيل هذا الطراز حتى إشعار آخر، وأعلنت شركات أخرى عن عدم تضمن أسطولها لهذا الطراز. وانخفضت أسهم «بوينغ» بعد هذا الحادث بأكثر من 14 في المائة، وهو أمر متوقع لشركة تواجه أزمة ضخمة مثل هذه، ولكن السؤال المطروح، هل تواجه «بوينغ» خطراً فعلياً من هذا الحادث؟
الحقيقة أن «بوينغ» أبعد ما تكون عن الخطر الحقيقي، حتى مع وجود هذا الحادث، ولو أن هذا الحادث حصل في صناعة غير محتكرة، لانتقلت خسائر الأسهم من الشركة لتكون أرباحاً وارتفاعات في شركة أخرى، ولكن هذا لم يحدث بين الشركتين المحتكرتين للسوق، فسعر سهم «إيرباص» (الشركة المنافسة الوحيدة) لم يرتفع - حتى في أقصى حالاته - أكثر من 5 في المائة، ليعود بعدها لينخفض مرة أخرى. وهذا دليل على أن السوق لا يؤمن بأن هذا الحادث مؤثر على «بوينغ»، حتى مع صمتها في بداية الحادث.
والواقع أن السوق على علم أن شركة «بوينغ» تحتفظ في احتياطيها المالي بأكثر من 12 مليار دولار مخصصة للحوادث من هذا النوع لاحتواء الأزمات المماثلة. وكلتا الشركتين مدعومتان بالحكومات؛ فالحكومة الأميركية تقف خلف «بوينغ»، التي تعد ثاني أكبر داعم للأحزاب السياسية في الولايات المتحدة. والحكومات الأوروبية كذلك تقف خلف «إيرباص»؛ سلاحها الوحيد ضد السيطرة الأميركية على صناعة الطيران.
لا يقتل المنافسة عامل أكثر من الاحتكار، و«بوينغ» تعلم أنها في مأمن حتى مع حادثين مروعين تسببا في قتل أكثر من 300 شخص. وهي تعلم ذلك لأن منافستها الوحيدة تعرضت لحادث مشابه في عام 2013 مع حوادث احتراق بطاريات الطائرة «دريم لاينر 787»، ومع ذلك استطاعت تجاوز الخطر بسهولة نسبية. ولذلك فإن ما استدعى تأسيس «إيرباص» في أواخر ستينيات القرن الماضي، قد يستدعي الآن دخول شركات جديدة للسوق، وهو خلق منافسة إضافية تستدعي رفع المعايير التصنيعية.
ولا شك في قدرة الشركتين على التصنيع، ولكن العالم اختلف، وصناعة ضخمة مثل الطيران لا تستطيع تلبية الطلب العالمي اليوم، كما كانت تستطيع ذلك في التسعينيات. وصناعة الطائرات من الصناعات القليلة التي لا تواجه تحدياً حقيقياً من الصين، فشركة الطائرات الصينية «كوماك» تحتاج لسنوات طوال حتى تستطيع المنافسة في هذه السوق، ولعل في ذلك إشارة لتأثير وجود الصين والصناعات الصينية في العالم.