فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

روسيا والعراق... كلاهما يلتفت نحو الآخر

لسنوات طويلة، ربط تعاون وثيق بين روسيا والعراق. ورغم أن هذه العلاقة شابها في الحقبة السوفياتية تنكيل الحاكم السابق للعراق بالشيوعيين العراقيين، وبالأكراد أيضاً، فإن نظرة الشعبين - رغم تلك الظروف - تميزت بتعاطف قوي ربط فيما بينهما.
والملاحظ أن هذه السمة طبعت العلاقة تجاه المكونين العربي والكردي للشعب العراقي، لأن موسكو أيدت في عهود سيطرة الاستعمار، من دون أي تحفظ، تطلعات العراقيين نحو التحرر الوطني، ومنذ عام 1958 فعلت الكثير للمساعدة في تعزيز استقلال بلادهم.
ولأسباب مفهومة؛ سيطر بعد عام 2003 نوع من الفتور على علاقات الطرفين، لكنه لم يستمر طويلاً. ورغم أن واشنطن أصبحت شريكاً استراتيجياً لبغداد، فإن تقارب مواقف ووجهات النظر لدى روسيا والعراق حيال قضايا إقليمية وعالمية كثيرة، وتنامي الدور الروسي المزداد في المنطقة، فضلاً عن الإرث التاريخي من التعاطف الذي ربط الشعبين... كلها أسباب دفعت بالعلاقة بين البلدين إلى التقارب مجدداً. وإلى حد كبير، لعبت عودة الاستقرار تدريجياً إلى العراق دوراً في هذا المجال، خصوصاً في إطار المدّ المتصاعد للرغبة في تبني سياسات خارجية مستقلة، تقوم على تنويع العلاقات الخارجية.
دخل العراق بعد إلحاق الهزيمة بـ«داعش» مرحلة تعزيز الاستقرار، والعمل بنجاح على تقويض خطوط التصدع التي غذّت لفترة طويلة مشاعر عدم الثقة المتبادل والعداء والصدامات الشرسة بين المكونات العرقية والمذهبية والنخب التي تمثلها.
ومع ذلك، لا يزال هناك كثير من المشكلات الجدية، التي لم تجد حلولاً بعد، ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية - السياسية في البلاد، ويكفي التوقف عند عدد منها...
يصنف علماء السياسة الغربيون المجتمع العراقي على أنه من المجتمعات المنقسمة بعمق. وشهد كثير من المجتمعات التي يشار إليها عادة بهذا التصنيف، مراحل من الصراعات العنيفة الحادة. لكن في معظم الحالات كان التدخل الخارجي يعد المحرك الرئيسي للانفجار في تلك المجتمعات. وهذا ما حدث في العراق. واليوم، لا تتنافس المكونات العرقية - المذهبية الرئيسية فيما بينها فقط (بما في ذلك السنة والشيعة والأكراد)، فالأكثر انتشاراً هي الصراعات داخل الجماعات المختلفة نفسها، بما في ذلك القبائل والعشائر والتكتلات المتضامنة الأخرى، وكذلك الأحزاب والتكتلات السياسية.
الوضع يزداد تعقيداً بسبب وجود الميليشيات المسلحة في البلاد (وفقاً لبعض التقديرات يتراوح عددها بين 45 و60 تنظيماً). ورغم أن كثيراً منها لعب أدواراً مهمة في تحرير البلاد من «داعش»، فإن الواضح أنه ما زال على المجتمع أن يقطع شوطاً بعيداً قبل الوصول إلى المصالحة الوطنية الكاملة.
وفي العراق ثمة مشكلة معروفة جيداً، تتعلق بالمناطق «المتنازع عليها» أو «المختلطة». تكفي الإشارة إلى الصراع بين الأكراد والعرب حول كركوك. وإلى الأحداث في سنجار؛ حيث ارتكبت أعمال عنف ضد الإيزيديين، من جانب متطرفين؛ بينهم للأسف مجموعات تنتمي إلى قبائل عربية محلية. وكذلك ثمة مشكلات في أماكن توزع التركمان (على سبيل المثال تلعفر)... وهكذا دواليك.
ولا يمكن الارتكان إلى أن «داعش» تلقى هزيمة نهائية؛ إذ ما زالت «جيوبه» موجودة في مناطق عدة من البلاد. وما زال المسلحون يرتكبون أعمالاً إرهابية، وإن كان ذلك بمعدلات أقل من السابق بكثير.
وطبقاً لاستطلاعات أجراها في الموصل بعد تحرير المدينة من قبضة «داعش» مجموعة من الباحثين الغربيين؛ بينهم على سبيل المثال سكوت أتران؛ الخبير البارز في شؤون الإرهاب، فإن مشاعر التعاطف مع فكر تنظيم داعش ما زالت منتشرة بين سكان المدينة (علما بأن الغالبية رحلت منها) رغم إدانة التصرفات البشعة التي قام بها هذا التنظيم.
وتعد مشكلة إعادة إعمار المدن المدمرة (على سبيل المثال الموصل وسنجار) وتحديث البنى التحتية في البلدات أيضاً من المشكلات الحادة المطروحة على جدول الأعمال، ومجرد سرد اللائحة الطويلة من هذه المشكلات سوف يستغرق كثيراً من الوقت.
وقد عبرت موسكو عن ارتياحها لملاحظة أن تحسين إدارة الدولة يساهم في حل هذه المشكلات، وإن التقارب الحاصل في الفترة الأخيرة، بين موسكو وبغداد، كما ذكرنا سابقاً لم يأت من فراغ وهو يخدم مصالح البلدين. وقد تم إنجاز كثير من العمل. وتعمل في العراق شركات الطاقة الروسية «لوك أويل» و«غازبروم نفت» و«سيوزنيفتغاز»، ولدى شركة النفط العملاقة «روس نفت» خطط أيضاً في العراق.
وبلغ إجمالي حجم الاستثمارات في صناعة النفط والغاز 10 مليارات دولار. ويجري النظر في مشروعات استثمارية جديدة في مجالات عدة، مثل الطاقة الكهربائية والنقل والزراعة... وغيرها. وعلى المستوى التعليمي، هناك أكثر من 4 آلاف طالب عراقي يدرسون في الجامعات الروسية في تخصصات مختلفة.
نقطة أخرى لها أهمية خاصة؛ في الآونة الأخيرة، قام عدد من النواب العراقيين بطرح مبادرة لاعتماد قانون حول انسحاب القوات الأميركية من البلاد. لقد أعجبني حقاً كيف رد الرئيس برهم صالح بحرص ومسؤولية على سؤال حول هذا الموضوع في اجتماع «ملتقى الرافدين» ببغداد في 4 فبراير (شباط) الحالي. لا أريد أن أكرر كلمات رئيس الدولة أو أعلق عليها، لكن المنطق هنا واضح.
لدى العراق شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة. وفي عام 2017، وقع البلدان اتفاقية إطار حول الصداقة والتعاون بين البلدين. والقوات الأميركية موجودة في العراق بشكل شرعي ولكن مؤقت، ومهامها تقتصر على محاربة الإرهاب، ودعم استقرار الوضع في البلاد.
في الوقت نفسه، لا يسمح الدستور العراقي من حيث المبدأ بنشر قوات أجنبية في البلاد. بين السطور يمكنك أن تقرأ أن القوات الأميركية يمكن أن تبقى على أراضي العراق فقط ما دام ذلك ضرورياً، وفقاً لما هو منصوص عليه في التفويض الموكل إليهم.
لا ينبغي الظن أن هذا العامل يمكن أن يؤثر بأي شكل على علاقة روسيا مع العراق. ورداً على سؤال عما إذا كانت روسيا قلقة بشأن الوجود العسكري الأميركي في العراق، قال وزير الخارجية سيرغي لافروف في مؤتمر صحافي بموسكو في 30 يناير (كانون الثاني) الماضي، أعقب مفاوضاته مع وزير الخارجية العراقي محمد علي الحكيم: «نحن نحترم حق العراق السيادي مثل أي بلد آخر في تقرير أفضل السبل لضمان أمنه، وبما أن القوات الأميركية توجد على الأراضي العراقية بالاتفاق مع الحكومة العراقية، فإن الشروط التي يحددها القانون الدولي تحظى بالاحترام الكامل».
يجب التنويه بأن روسيا تتعامل بالدرجة نفسها من التفهم مع الوجود الأميركي في المنطقة. وأوضح الوزير بعد تلك العبارات أن بلاده «تنطلق من أن الوجود العسكري الأميركي في العراق يلبي الأهداف المنصوص عليها، وهي مكافحة الإرهاب ومساعدة الحكومة العراقية على تعزيز استقرار الوضع، وليس من أجل حل المهام الجيوسياسية في هذه المنطقة بطريقة ما، والتي تسعى إلى تحقيق الأهداف الأحادية للولايات المتحدة. وليس لديّ أي شك في أن القيادة العراقية تنطلق من هذا الفهم أيضاً».
في الوقت ذاته، أعاد لافروف إلى الذاكرة خلال حديثه في 4 فبراير الحالي بالجامعة السلافية الروسية القيرغيزية، أنه رغم أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب كان وصف في اليوم السابق غزو العراق بأنه خطأ فادح، فإنه «ومع ذلك، لا نشهد تراجعاً لنهج التوغل في بلدان تحكمها أنظمة لا تعجب الولايات المتحدة».
بالمناسبة، تتعاون روسيا والعراق بنجاح في مكافحة الإرهاب. ويساعد في هذا الأمر «مركز بغداد للمعلومات»، حيث يقوم كل من روسيا والعراق وإيران وسوريا بتنسيق تحركاتها في هذا المجال.
وثمة أسباب للأمل في أن تكون الزيارة المرتقبة إلى روسيا من قبَل الرئيس العراقي برهم صالح، الذي برز بصفته رجل دولة له خبرة واسعة ومحل ثقة، بداية مرحلة جديدة من التعاون بين البلدين.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»