عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

بين {جحيم} المفاوضات و{فردوس} التعاون

رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في رحلات مكوكية، من لندن إلى بلفاست إلى بروكسل إلى لندن إلى دبلن إلى لندن، ولم يلمح الكثيرون، بقائيين كانوا أو «بريكستيين»، سوى «خفي حنين» في حقائب السفر العائدة.
قراءة خريطة ساحة حرب الأعصاب بين قوميسارات الاتحاد الأوروبي، وحكومة المملكة المتحدة، ليست بمهمة يسيرة.
رحلة بروكسل كانت مضيعة لوقت رئيسة الوزراء، واللوم يقع على زعماء الاتحاد.
جاءت الزيارة بعد زوبعة أثارها أحد رؤساء الاتحاد الستة، ويلقب كل منهم «president» (لقب رئيس دولة): رئيس المفوضية الأوروبية (اللوكسومبورغي جون كلود يونكر)، ورئيس البرلمان الأوروبي (الإيطالي أنطونيو تاجاني)، ورئيس المحكمة الأوروبية (البلجيكي كوين ليناريتس)، ورئيس البنك المركزي الأوروبي (الإيطالي ماريو دراغي)، ورئيس محكمة المحاسبة الإدارية والمالية (الألماني كلاوس - هاينر لهيني)، ورئيسة مجلس الاتحاد الأوروبي (الرومانية فيوريكا دانشيلا)، ورئيس المجلس الأوروبي البولندي دونالد توسك.
الأخير في مؤتمره الصحافي مع الزعيم الآيرلندي ليو فارادكه، الأربعاء، لعب علي شِعر دانتي الليغيري (1265 - 1321): «أسوأ مكان في جهنم مخصص لمن يقفون على الحياد عند احتدام أزمة أخلاقية».
وكان الشاعر الإيطالي دانتي أكمل ملحمته الشعرية «الجحيم» في 1300م (وأتبعها بملحمته الثانية «الفردوس»).
تخلى رئيس المجلس الأوروبي عن اللباقة التي اعتدنا أن يتحلى بها رئيس مجلس يمثل زعماء سبعة وعشرين بلداً، عندما استعار بيتاً من «جحيم» دانتي ليتساءل في المؤتمر الصحافي المشترك: «أي مكان سيخصص في جهنم لمن تسببوا بـ(البريكست) بلا خطة لخريطة الطريق؟».
وبما أن أغلبية، جاءت الأكبر في تاريخ الانتخابات لعقود طويلة، هي التي صوتت بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وذهبت 80 في المائة من أصوات الناخبين في انتخابات 2017 إلى الأحزاب التي خاضتها ببرامج تعد بتنفيذ نتيجة الاستفتاء، فإن الأمر يتجاوز الظاهر على السطح من مجرد ما اعتبره البريطانيون إهانة لهم بزجهم في أسوأ مكان في الجحيم.
السؤال الأكثر عمقاً هو عجز المؤسسة الحاكمة في الاتحاد الأوروبي عن فهم الديمقراطية التي مارسها البريطانيون لثمانية قرون. فكل من الاستفتاء والانتخابات في نظر رجل كان رئيساً لوزراء بولندا لسبع سنوات (2007 - 2014) هما مجرد عقبات في طريق الرحلة الآيديولوجية نحو تأسيس دولة فيدرالية، اللهم إلا إذا جاءت نتائج الانتخابات في سياقها فقط.
المفارقة أن الرجل، الذي كان شاباً وقت «إضرابات غدانسك» التي أدت لإنهاء الشيوعية من بولندا، يفكر بعقلية أوتوقراطيي الحزب الواحد؛ فالتصويت ليس تعبيراً عن إرادة الناخب بقدر ما هو الموافقة على مرحلة جديدة من سياسة النظام كخاتم مطاطي يضفي على الاستمارة صفة القانونية أثناء مرورها بمكاتب، لا ضرورة لها من الناحية العملية، بل لتبرير وجود الجهاز البيروقراطي الطفيلي الضخم.
أضاعت بروكسل فرصة تاريخية يوم الخميس عندما ذهبت رئيسة الوزراء الريطانية باقتراح وافق عليه مجلس العموم، خصوصاً جناح الخروجيين المتشددين في حزبها، ومعهم العشرة من الحزب الوحدوي الديمقراطي لآيرلندا الشمالية.
المملكة المتحدة لم تطلب إعادة التفاوض، أو إعادة صياغة اتفاقية الخروج، وإنما مذكرة تفسيرية إلزامية بشأن تحديد الفترة المؤقتة التي تربط فيها المفوضية الأوروبية أيدي المملكة المتحدة بلوائح الاتحاد. مذكرة تمنح أياً من الطرفين حق إنهاء الفترة المؤقتة للارتباط، فأحد أهم دوافع التصويت بالخروج هي حرية عقد الصفقات مع أطراف خارجية كبلدان الخليج والصين و«الكومنولث»، وهو ما تحول عضوية الاتحاد الأوروبي دونه.
وبدلاً من تلقف فرصة مشروع قرار يوافق عليه برلمان وستمنستر بموافقة أغلبية حزب المحافظين الحاكم، فوجئنا بغاي فيرهوفشتادت، رئيس اتحاد الديمقراطيين الليبراليين الأوروبي يزيد من جرعة إهانة توسك لجناح المحافظين الذين تمكنت السيدة ماي من الحصول على موافقتهم على مشروعها، بتغريدة «تويتر»: «إبليس لن يقبل هؤلاء المحافظين إلى جهنم حتى لا يحدثوا فتنة داخلها!».
هذا الموقف من زعماء الاتحاد الأوروبي يبدو منافياً للمنطق، لأن الضرر الواقع بالمملكة المتحدة في حالة الخروج بلا اتفاق سيتكرر بمضاعفات في عدد من بلدان الاتحاد. فالهولنديون يرتعدون من تحول التجارة بعيداً عن موانئهم، كذلك البلجيكيون، أما موانئ فرنسا الشمالية ككاليه فيشكو مسؤولوها من تعاقد المقاولين مع موانئ أخرى لتحويل التجارة، وممثلو صناعات السيارات الألمانية يضغطون على حكومتهم للتوصل إلى اتفاق مع لندن، بينما أعلن مكتب الإحصاءات الألماني أن اقتصاد البلاد دخل مرحلة الكساد لا النمو. وبما أن الموافقة على إضافة مذكرة إضافية لا تستغرق مجرد مكالمة تليفونية بين 10 داوننغ ستريت وبروكسل، فإن سلوك توسك «الجحيمي» وتغريدة فيرهوفشتادت «الإبليسية» يدعوان للحيرة والتساؤل.
لكن إذا نظرت من بروكسل سترى صورة أخرى. الرؤساء الستة وجيش الموظفين البيروقراطيين التابعين لهم لا يرون المملكة المتحدة «أقوى وأهم شريك وصديق وحليف لأوروبا» كقول السيدة ماي في تصريح فلورنسا (2017) عن الشراكة مع أوروبا، بل يرون «بريكست» تهديداً. توسك وشركاه يدركون أن مشروع الوحدة الفيدرالية يواجه خطر الفناء، ولا يوجد حزب أوروبي مناهض للوحدة الأوروبية إلا ويستمر في التقدم في الانتخابات بكل أنحاء أوروبا. آخر استطلاع رأي في فرنسا (مع استمرار مطالبة «السترات الصفراء» بإسقاط الرئيس إيمانويل ماكرون)، وجد أن 40 في المائة من الناخبين الفرنسيين يفضلون «فريكست» (خروج من الاتحاد). ومن المتوقع زيادة هذه الأحزاب لمقاعدها في البرلمان الأوروبي في انتخابات هذا الصيف.
الرئيس الفرنسي سحب سفيره من إيطاليا في أسوأ تدهور للعلاقة بين البلدين منذ الحرب العالمية، بعد حث ماتيو سالفيني، نائب رئيس وزراء إيطاليا، الفرنسيين، على «الإسراع بتحرير أنفسهم من رئيسهم المريع». أما الزعيم المجري فيكتور أوروبان فيجاهر بالعداء للوحدة الأوروبية، ومستمر في إغلاق حدود بلاده رافضاً حرية الحركة الأوروبية للمهاجرين. أما منطقة اليورو النقدية فقد خفضت درجتها الائتمانية في تقديرات الوكالات العالمية يوم الخميس.
ولذا فإن تماسك الأعصاب اليوم في لعبة الشد بين لندن وبروكسل هو الورقة الرابحة.
فبجانب ضرورة تكرارها لتصريح فلورنسا بما توفره المملكة من فوائد وقوة أمنية لأوروبا، ستحتاج السيدة ماي إلى ما هو أقوى من أعصاب السيدة الحديدية الراحلة مارغريت ثاتشر، إنها تحتاج إلى أعصاب جليدية في برودة أعصاب السير ونستون تشرشل لإطفاء «جحيم السيد توسك» وشركاه، وقيادته بهدوء البرود الإنجليزي إلى مرحلة «فردوس التعاون والصداقة».