صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

هل تسعى روسيا فعلا لإقامة دولة «علوية»؟

قبل أيام قليلة من قبول المعارضة السورية، الائتلاف على وجه التحديد، لدعوة روسية بزيارة موسكو عشية انعقاد مؤتمر «جنيف 2»، الذي يبدو أنه ربما لن ينعقد أبدا، تحدث سياسي عربي مرموق، كان شغل موقع رئيس الوزراء في بلده، بمرارة عما سماه إدارة العرب ظهورهم للروس ووضع بيضهم كله في السلة الأميركية.. «ولهذا فإنهم قد وجدوا أنفسهم أمام معادلة بائسة جدا، فهم خسروا فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف، في حين أنهم لم يربحوا باراك أوباما الذي ثبت أن إدارته سبب كل هذه الانهيارات والأوضاع المأساوية التي باتت تعيشها سوريا».
لقد بدا هذا السياسي العربي متشائما وبدا وكأنه قد تخلى عن كل رهاناته السابقة على الولايات المتحدة، إنْ لجهة استقرار الأمور المضطربة جدا في هذه الأيام في بلده، وإنْ لجهة اتخاذ موقف حاسم تجاه المأزق السوري المتفاقم، وأيضا إنْ لجهة الضغط على الإسرائيليين وإلزامهم ولو بالحد الأدنى المعقول من حل يحقق للشعب الفلسطيني تطلعاته في إقامة دولته المستقلة المنشودة.
ويرى هذا السياسي العربي أنه كان على العرب أن يأخذوا العبرة مما فعله الأميركيون في أفغانستان وفي العراق، وأن يدركوا منذ بدايات الأزمة السورية أن هذه الإدارة الأميركية لا يجوز الرهان عليها، وبخاصة بالنسبة لأزمة كهذه الأزمة التي من المؤكد أنه سيتوقف على كيفية حسمها مستقبل الشرق الأوسط بأسره، وهنا فإنه، أي هذا السياسي العربي، قد قال أيضا إن هذا الوضع العراقي المأساوي هو في حقيقة الأمر أحد ارتدادات الزلزال السوري المدمر الذي لن تسلم من ارتداداته أي دولة عربية، سواء كانت مجاورة وقريبة أو نائية وبعيدة، وأيضا وحسب رأي هذا السياسي العربي، فإن المجرب لا يجرب، وإنه ما دام الأميركيون قد سقطوا في امتحان العراق الذي سلموه تسليم اليد لإيران، فليس من الجائز المراهنة عليهم بالنسبة للأزمة السورية، وكان من الضروري الاتجاه إلى موسكو والتفاهم معها على حل معقول يستجيب لرغبة السوريين في التغيير ويحقق للروس مصالحهم القديمة - الجديدة في هذه المنطقة.
لكن ومع كل التقدير والاحترام لهذا السياسي العربي فإنه لا بد من التأكيد أن العرب، مع أن رهانهم الرئيس بالنسبة للأزمة السورية كان على الأميركيين وعلى دول الاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى، فإنهم لم يهملوا روسيا على الإطلاق، وإنهم بقوا يحاورونها ويأخذون رأيها ويرسلون وفودهم إليها ويستقبلون وفودها في عواصمهم، لكن وللأسف، فإنه قد ثبت وبالأدلة الملموسة والقاطعة، أن بوتين وسيرغي لافروف كانا يناوران ويتلاعبان بعامل الوقت من أجل هدف واحد لا غيره، وهو الإبقاء على نظام بشار الأسد لأطول فترة ممكنة، وهو أيضا تمزيق المعارضة السورية وإغراقها بالتنظيمات والمجموعات الإرهابية الوافدة التي ثبت أن بعضها - إن لم تكن كلها - مجرد صناعة مخابراتية إيرانية - سورية مشتركة وبعلم ومعرفة موسكو.
لقد بذلت بعض الدول العربية جهودا مضنية لإقناع الروس بأن مصالحهم مع الشعب السوري ومع العرب ومع أهل هذه المنطقة أهم كثيرا من مصالحهم مع نظام بشار الأسد، لكن ورغم كل الإغراءات الفعلية التي قدمت للرئيس بوتين والوعود التي أعطيت إليه وإلى وزير خارجيته سيرغي لافروف، فإن موسكو لم تتخلَ عن الموقف الذي كانت اتخذته منذ اللحظة الأولى، بل وهي ازدادت صلفا برفع الشعار الذي لا تزال ترفعه، والقائل: «إن الحل المنشود يجب أن يكون بالمفاضلة بين بشار الأسد والإرهاب»!
وهكذا، فإن روسيا لم تغير خط سيرها بالنسبة لهذه الأزمة، وإنها بعد تراجع الأميركيين والأوروبيين باتت تتصرف على أنها اللاعب الوحيد والأوحد في هذا الميدان، فهي التي وقفت خلف فكرة مؤتمر جنيف الأول ومؤتمر جنيف الثاني، وهي صاحبة حل التخلص من الأسلحة الكيماوية، وهي التي دفعت في اتجاه إبرام الاتفاق النووي الذي أبرمته مجموعة الـ5+1 مع إيران الخامنئية، وحقيقة أن الدور الروسي بالنسبة للأزمة السورية قد طغى حتى على دور بشار الأسد نفسه وحتى على دور إيران، فالرئيس بوتين أصبح هو رئيس سوريا، ووزير خارجيته سيرغي لافروف غدا هو وزير خارجية الجمهورية العربية السورية.. وكل هذا بالإضافة إلى تعطيل مجلس الأمن الدولي ومنعه من اتخاذ أي قرار لوضع حد لأزمة باتت أزمة إقليمية ودولية وأصبحت تهدد هذه المنطقة الحساسة والشرق الأوسط كله.
فلماذا يا ترى لجأت روسيا إلى كل هذا الانحياز غير المبرر؟ ولماذا واصلت التصعيد واستمرت بتعطيل أي محاولة لحل سلمي ينهي هذا الصراع ويجنب سوريا خطر التمزق والانهيار؟!
كان انفجار الوضع في سوريا فرصة للقيادة الروسية بقيادة بوتين لاستعادة ولو شيء من الدور الذي كان يلعبه الاتحاد السوفياتي في المعادلة الدولية قبل انهياره، حيث كان هناك معسكر شرقي مركزه موسكو وجناحه العسكري حلف وارسو الشهير، وكان هناك معسكر غربي مركزه واشنطن وجناحه العسكري حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهكذا فقد كان انحياز دول العالم كلها على هذا الأساس، وذلك رغم أن منظومة عدم الانحياز قد اخترعت اختراعا للضحك على ذقون الذين كانوا يقنعون أنفسهم بأن دول هذه المنظومة غير منحازة!!
والمعروف أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تحولت روسيا (الاتحادية) إلى مجرد بيدق صغير على رقعة الشطرنج الدولية، وأنها أصبحت بلا أي دور فاعل لا في مجلس الأمن ولا في الأمم المتحدة عموما، وبخاصة بعد أن خسرت أوروبا الشرقية كلها ومعها جمهوريات البلطيق الثلاث ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، وهكذا فقد تمادى الأميركيون في التحدي إلى حد تركيز صواريخهم الاستراتيجية، بحجة واهية هي مواجهة الخطر الإيراني الداهم، تحت أنف الدولة الروسية.
ولهذا فقد وجد بوتين أن الفرصة غدت سانحة، بعد مارس (آذار) 2011، لتصفية حسابات بلده مع الولايات المتحدة التي لحسن حظه وحسن حظ روسيا قد ابتليت برئيس متردد وبإدارة هزيلة فسحت المجال أمام موسكو لتصبح هي صاحبة القرار الرئيس، ليس بالنسبة للأزمة السورية فقط، وإنما بالنسبة لما يجري في الشرق الأوسط كله.
إن هذه هي الحقيقة، ولذلك فإن كل ما فعله الروس على مدى الأعوام الثلاثة الماضية لم يكن حبا لا في بشار الأسد ولا في نظامه، وإنما لاستعادة مكانة دولية كانت فقدتها موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بدايات تسعينات القرن الماضي، والواضح أن بوتين سيواصل هذه «اللعبة» حتى إن لم يبق في سوريا حجر على حجر، وحتى وإن كانت النتيجة النهائية تمزق هذا البلد وتحويله إلى دويلات مذهبية وطائفية ستبقى تتقاتل عشرات الأعوام وإلى ما شاء الله!!
ثم وإن ما يؤكد أنه لا يهم روسيا إلا مصالحها وإلا توجيه المزيد من اللكمات لأنف الولايات المتحدة واستعادة مكانة دولية، كانت خسرتها بانهيار الاتحاد السوفياتي، وأن موسكو قد دأبت على مدى الأعوام الثلاثة الماضية على تعطيل كل محاولات وضع نهاية لهذه الأزمة بالوسائل السلمية، وأنها فتحت المجال لإيران لتحول صراعا بدأ سياسيا إلى حرب طائفية أسهمت فيها عسكريا بـ«فيلق القدس» وبكل هذه التشكيلات المذهبية التي توجد الآن في كل جبهات القتال من ميليشيات حزب الله إلى عصائب الحق إلى فيلق «أبو الفضل العباس» إلى «ذو الفقار».
والسؤال هنا أيضا هو: هل روسيا يا ترى تسعى فعلا لتمزيق هذا البلد وتسعى لإقامة الدولة «العلوية» التي يجري الحديث عنها لتكون قاعدتها وقاعدة أساطيلها المتقدمة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط؟!
إنه من الصعب الحسم بهذا الأمر، لكن كل الأدلة تشير إلى أن الروس منهمكون في لعب هذه اللعبة القذرة والدليل هو أنهم قد حصلوا على «امتياز» التنقيب عن النفط والغاز على سواحل البحر الأبيض المتوسط السورية.. وأنهم بعد توقيع اتفاقية مماثلة مع قبرص باتوا يسعون لتحويل هذه المنطقة إلى بحيرة مصالح روسية استراتيجية!!