حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

وداعاً مي منسى

القلم وسيلة للتعبير، بها تسطر الأفكار والمشاعر مع الحروف والكلمات، وكثير هم مَن تميزوا بقدرات إبداعية في عالم الكلمة والصحافة، ولكن قلة قليلة جداً منهم كانوا أصحاب الكلمات الساحرة، ومي منسى التي رحلت عن دنيانا في عمر الواحد والثمانين عاماً كانت من هؤلاء.
شخصياً كنت أعتبر مي منسى صاحبة الأسلوب الكتابي الأكثر عذوبة ورقة ورقياً. كانت ناقدة أدبية وموسيقية ومسرحية لا مثيل لها. عندما تصف الأداء الموسيقي لأوركسترا كلاسيكي بكلماتها عن معزوفات شتراوس وشوبان، لا أبالغ في القول إن نقدها للحدث الموسيقي وكلماتها وأسلوبها الساحر في وصف ما حصل، كان لا يقل إبهاراً ومتعة.
خمسون عاماً قضتها في عالم الصحافة والإذاعة، منها أكثر من أربعين عاماً في بلاط صحيفة «النهار»، تبناها ورعى موهبتها الاستثنائية الأستاذ الكبير غسان تويني، عميد «النهار». أصدرت ست روايات، لقيت معظمها الرواج والانتشار الجماهيري العريض، وكذلك الثناء النقدي المحترم والمميز. وتوفيت قبل أن تستكمل روايتها الأخيرة التي اختارت لها عنواناً بسيطاً ولافتاً، وهو «الغربة». ورحلت مي منسى وهي مرشحة من ضمن القائمة الطويلة للجائزة العربية للرواية «البوكر» وذلك من ضمن 16 اسماً عن روايتها «قتلت أمي لأحيا».
كانت كالناسك في محراب الكلمة، لم تعرف عداءات مع أي أحد، عاشقة لكل ما هو جميل، ولا ترى إلا الجمال، لقناعتها الكبيرة بأن أرقى وأنبل وأعمق درجات الحب هي «أن ترى في القبح جمالاً».
عرفتها لسنوات طويلة جداً، وكنت مدمناً على قراءاتها النقدية لكل الأعمال الفنية والموسيقية والمسرحية والأدبية، فهي كانت ترى بعين نقية، وتعكس ذلك بشفافية ورقي يندر وجودهما.
تكتب لترقى وليس لتسجيل نقاط ضد الغير. كنت أسير ذات يوم مع الأستاذ الكبير سمير عطا الله، فذكرت له نقداً بديعاً للراحلة مي منسى، فتوقف فجأة وانفعل مبتسماً، وبنبرة صوته المعروفة قال: «إنها الفراشة، إنها العصفورة المحبة التي تطير حول الضوء».. كم علق بذهني هذا الوصف.
حزنت لسماع خبر رحيل السيدة العظيمة. إنها صفحة جميلة وحزينة تطوى من كتاب زمن لبنان الجميل. رحلت لتلحق بغيرها من النجوم الذين تركوا عطاء راقياً وجميلاً يشهد على سمو أخلاقهم. لا يأتي ذكرها أبداً إلا ويتبعه ثناء وتقدير واحترام لعطائها وشخصها. اعتبرت ميلاد ابنها الوحيد «وليد» أسعد لحظات حياتها، وهي التي منحت قراءها ومن عرفها جرعات مركزة من الرقي والنبل والجمال الذين شارفوا على الانقراض.
كانت من مواليد مدينة بيروت، إلا أنها أوصت بأن تدفن بجانب والدتها في بشري في شمال لبنان، وكأنها تريد أن تكون أقرب للسماء فوق الجبال.
سنشتاق لحروفك وكلماتك الساحرة، سنشتاق للمعاني الراقية، سنشتاق للروح الصافية. وداعاً مي منسى.