سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

المارشال كان شاعراً

قبل عصر التلفزيون، كان نورمان كوروين أشهر كاتب إذاعي في أميركا. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1947) قام بجولة حول العالم لينقل مشاهداته عن المدن التي مرت بها أو دمرتها الحرب، وسوف يجد في العاصمة البولندية فرصوفيا آلاف العائلات التي لا تزال تعيش في الركام. منازل أُعيد بناء ربعها، والباقي لا يزال دماراً. ولكن البلد الذي فقد ستة ملايين إنسان يعيش في صبر وتفاؤل، ولا يتطلع خلفه.
كان الطيران في الأربعينات لا يزال بدائياً. وما بين طائرات عسكرية ومدنية سوف يكمل الرحلة إلى العراق ومصر والهند والصين. وفي القاهرة سوف يكتشف أن الكثيرين من الشبان لم يسمعوا بآلات التسجيل من بعد. وعندما سمعوا أصواتهم تأتي من شريط مسجل أُصيبوا بدهشة كبرى.
أُصيب بالدهشة نفسها ابن شقيقة الزعيم الهندي جواهر لال نهرو، الذي كان لا يزال وزيراً ولم يصبح بعد رئيس وزراء. وأعتقد أن المقابلة التي سجلها كوروين كانت في مقاطعها الكثيرة أعظم مواثيق الإنسانية المعاصرة، لعلها كانت ذرة الفلسفة التي بُنيت عليها مبادئ عدم الانحياز، وخروج العالم الفقير من مراحل الاستعباد.
قال نهرو: «إن على الدول التي تتمتع بالسلطة والنفوذ في عالم اليوم، أن تتقدم الآخرين في العمل نحو فكرة الحريات الأربع. وهي أنه لا يجوز أن تخضع أي أمة، أو أي شعب لشعب آخر، أو دولة أخرى. ولا يجب أن يعتبر أي عرق دون عرق آخر. وأن الطريق الوحيد الذي على الدول المتقدمة أن تسلكه هو مساعدة الدول المتخلفة في إزالة الفقر والعمل معاً في سبيل إنسانية موحدة».
ذلك المساء لم يستطع كوروين الخروج من فندقه لأن حظر التجول قد فُرض. لقد بدأت في الخارج المذابح بين الهندوس والمسلمين. وفي طريقه إلى المطار بعد أيام رأى الجثث تتحلل في الشوارع من الحر والأمطار. ولن تبقى هذه الهند فقط، بل سوف تصبح باكستان أيضاً. وقبل أن يُنهي جولته، يجري مقابلة مع مندوب صاحب الجلالة، المارشال أريشبالد ويفل، الذي كان أحد أبطال معركة العلمين خلال الحرب.
سوف يفاجأ عندما يقدم له العسكري المحارب كتابه «أزهار الآخرين»، وهو أطروحة كبيرة من القصائد ما زال يحفظ معظمها عن ظهر قلب. وأما العنوان فاستوحاه من قصيدة للفرنسي مونتين: «لقد جمعت باقة من أزهار الآخرين، وليس لي فيها شيء سوى الخيط الذي يربطها».
لم يتحدث الرجلان إلا في الشِّعر. أما في السياسة فقال ويفل جملة واحدة «كم سيكون من الصعب أن نعيد بناء هذا العالم المبعثر».