ليونيد إيسايف
محاضر لدى المدرسة العليا للاقتصاد التابعة للجامعة الوطنية للبحوث - موسكو
TT

إدلب ولا مركزية الدولة السورية

كانت نهاية عام 2018 زاخرة بالأحداث في سوريا، فبعد مشاركة كل من روسيا وتركيا وإيران، باعتبارها الأطراف الضامنة الرئيسية لعملية التفاوض بشأن سوريا وتحفيز عمل اللجنة الدستورية في جنيف، أعلن دونالد ترمب انسحاب القوات الأميركية من سوريا. مع ذلك، يمنحنا هذا، إلى جانب أمور أخرى، فرصة جيدة للنظر إلى الوضع في سوريا من زوايا مختلفة. منها منظور الاتفاق الروسي - التركي بشأن إدلب، الذي تمّ توقيعه في سبتمبر (أيلول) 2018 في مدينة سوتشي.
ذلك لأن مؤلفي هذه الوثيقة يرون أنه كان ينبغي توفير جميع الظروف الضرورية من خلال المنافسة في عام 2018 حتى تصبح محافظة إدلب منطقة خالية من أعمال العنف حقاً. ينبغي تذكر أنه بعد الاجتماع، الذي تم في 17 سبتمبر، وقّع وزيرا الدفاع في كلتا الدولتين على مذكرة تفاهم بشأن استقرار الوضع في محافظة إدلب حيث لا يوجد تصعيد للعنف. ووافقت كل من روسيا وتركيا، بموجب هذه الوثيقة، على إنشاء منطقة منزوعة السلاح، بعمق يتراوح بين 15 و20 كلم، على طول الخط الفاصل بين قوات النظام والمعارضة المسلحة بحلول 15 أكتوبر (تشرين الأول)، إلى جانب ضمان انسحاب المسلحين المتطرفين من تلك المنطقة، فضلاً عن التزام الأطراف بـ«سحب الأسلحة الثقيلة، والدبابات، وقاذفات الصواريخ، وقذائف الهاون الخاصة بكافة جماعات المعارضة من تلك المنطقة». في الوقت ذاته، ستتم السيطرة في المنطقة المنزوعة السلاح من خلال الشرطة العسكرية الروسية، والدوريات التركية. ولضمان نجاح هذه المهمة بالكامل، سيتم تعزيز مركز التنسيق الإيراني - التركي - الروسي المشترك. كذلك اتفق الأطراف على استعادة حركة المرور على طول الطريق السريع «إم 5» حلب - حماة، و«إم 4» حلب – اللاذقية، في نهاية عام 2018 كحد أقصى.
مع ذلك فشل الأطراف في تحقيق النتائج المذكورة في الوقت المحدد. وكانت آخر مرة جاء فيه ذكر ذلك، على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال اجتماع مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، على هامش قمة مجموعة العشرين في بوينس آيرس.
وقد أشار الرئيس الروسي مرة أخرى إلى استمرار الأعمال الاستفزازية التي تستهدف الجيش الروسي من إدلب، رغم بدء تنفيذ الاتفاقات منذ عدة أشهر. مع ذلك، جدير بالذكر أن الوضع على الأرض، الذي ترسخ بعد التوقيع على مذكرة التفاهم في 17 سبتمبر، رغم كل عيوبه ومثالبه، يناسب كلاً من الجانبين الروسي والتركي بوجه عام.
بطبيعة الحال، أنقرة هي المستفيد الأساسي من المعاهدة؛ حيث لم يتمكن إردوغان فحسب من تعزيز صورته بصفته الطرف الفاعل القوي الوحيد، الذي لا يزال قادراً على الدفاع عن مصالح المعارضة السورية، بل تمكنت أنقرة أيضاً من الحفاظ على نفوذها في سوريا، الذي قد يختفي بمجرد بدء عملية عسكرية واسعة النطاق في إدلب. مع ذلك تتوافق نتائج محادثات سوتشي، في الوقت ذاته، مع مصالح القيادة الروسية، التي لا تزال مهتمة بتفادي أعمال عنف واسعة النطاق في آخر منطقة متمردة في سوريا، رغم خطابها الذي يتسم بالمغالاة والمولع بالقتال.
تتحدد قيمة تلك الترتيبات بالنسبة إلى الكرملين على أساس 3 أوضاع؛ أولاً أتاحت الاتفاقات التي تم التوصل إليها في سوتشي، تجنب صدام روسي - تركي آخر في سوريا. وكان خطر نشوب مواجهة مع تركيا كبيراً بما فيه الكفاية بالنظر إلى عزم أنقرة الانخراط بالكامل في حال استمرار التحرك نحو غزو إدلب. واتضح ذلك من خلال الزيادة المستمرة في عدد الجنود الأتراك في مناطق المراقبة في إدلب. ثانياً ربما يؤدي بدء تنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق في إدلب إلى الدفع مرة أخرى باتجاه استخدام الأسلحة الكيماوية بحسب ما تنذر به تحذيرات النظام والمعارضة على حد سواء. لو حدث ذلك فسوف تعاني موسكو مرة أخرى من خسائر تتعلق بسمعتها، أياً كان الطرف الذي يقف وراء تلك الأعمال. ومن المؤكد أن الكرملين، الذي لا يزال يحمل آثار الخسائر والأضرار السياسية والأخلاقية بسبب فضيحة ساليسبيري، غير مهتم بتحقق سيناريو استخدام الأسلحة الكيماوية على أرض الواقع مرة أخرى.
أخيراً، بالنظر إلى الصعوبات التي تواجهها العلاقات بين موسكو ودمشق، يجب على المرء أن يضع في اعتباره أن الجانب الروسي ليس مهتماً كثيراً بإعادة إدلب إلى قبضة النظام السوري. بطبيعة الحال سوف يحل ذلك مشكلة أمن القواعد العسكرية الروسية، التي تتعرض لهجمات مستمرة من جانب المسلحين المتمركزين في إدلب، بحسب قول وزير الخارجية سيرغي لافروف، لكنه في الوقت ذاته، يعني الاستيلاء على المنطقة المتمردة نهاية عملية آستانة، أي خسارة وسيلة فعّالة مكّنت موسكو على الأقل من إضفاء قدر من الشرعية على أفعالها في سوريا. إذا سقطت إدلب فسوف يخسر الكرملين دوره كوسيط، وبدلاً من مناقشة الجوانب العسكرية للأزمة، سوف يتعين على القيادة الروسية التعامل مع المسائل المتعلقة بإعادة الإعمار، التي تشعر بعدم الطمأنينة تجاهها.
ليس من الإسراف في القول تذكر توجيه الرئيس ترمب الشكر إلى كل من روسيا وإيران وسوريا، خلال اجتماع مجلس الأمن الخاص بعدم انتشار الأسلحة النووية؛ لأنهم «أوقفوا الهجوم على محافظة إدلب بناءً على طلبه».
من المهم التأكيد على أن عواقب الاتفاق الروسي - التركي بشأن إدلب ليست عسكرية فحسب، بل لها بعد سياسي أيضاً. لقد اتخذ كل من الرئيسين الروسي والتركي، من خلال التفاوض على الوضع الخاص لتلك المحافظة المتمردة، خطوة أخرى باتجاه التقسيم الفيدرالي (الاتحادي) لسوريا دون أن يدركا ذلك. النظام الفيدرالي هو شكل من أشكال الحكم يسمح بوجود أنظمة سياسية وقانونية مختلفة على أراضي الدولة الواحدة، ويتيح تمتع الأراضي المنفردة بسلطات وحقوق خاصة داخل إطار اتحاد فيدرالي. عادة ما يتم تحديد وضع منطقة ما داخل الاتحاد على أساس تكوينها العرقي أو اللغوي أو الديني. في الوقت ذاته لا ولن توجد قائمة شاملة بتلك الأراضي، ويعني ذلك أن الاختلافات الآيديولوجية والسياسية قد تمثل معياراً للفصل الفيدرالي. بعبارة أخرى، سيتحول توقيع مذكرة التفاهم الخاصة بإدلب إلى وسيلة لإنشاء كيان سياسي ذي حكم ذاتي على الأراضي السورية، لا ينفصل عن هيكل الدولة السورية، معزول تماماً، لكنه متعايش معه بشكل كامل.
يمكن اعتبار حل من ذلك النوع خطوة أخرى باتجاه فرض نظام فيدرالي في سوريا بالقوة لا يعتمد فحسب على مبادئ عرقية أو دينية، استناداً إلى متطلبات اللحظة الراهنة، بل أيضاً إلى مبادئ سياسية تتعلق بتكوين أجزاء بنيوية لاتحاد فيدرالي. كذلك من المهم أيضاً ذكر أن الوضع الجديد المذكور أعلاه يمكنه تعزيز الدوافع الداخلية لتحقيق اللامركزية، التي يتم دعمها بشكل كبير من جانب الأكراد حالياً. ولا يزال الأكراد يمثلون حتى اليوم القوة الوحيدة في سوريا المعنية بتقسيم السلطة، ويعلنون صراحاً عن موقفهم هذا. ربما يكون من المستحيل فرض النظام الفيدرالي من الخارج على دمشق، خاصة بعد ما حققته من انتصارات عسكرية خلال الأشهر القليلة الماضية، لكن يبدو أن الأكراد قادرون على إجبار النظام على ذلك التحول من الداخل، فهم لا يبحثون خيار الاستقلال التام لعدة أسباب داخلية وخارجية، ويناسبهم أكثر امتلاك سلطات كبيرة داخل سوريا. ما يؤكد ذلك المفاوضات الأخيرة بين «قوات سوريا الديمقراطية» والحكومة السورية بشأن رسم «خريطة طريق» لمستقبل سوريا اللامركزية.
مع ذلك، هناك سؤال يطرح نفسه؛ أليس هذا الأمر معقداً للغاية؟ ألن يكون من الأسهل محاولة «جمع» ما يبدو غير متآلف أو متوافق، وقبول خيار حق الجميع في تقرير المصير السياسي، وهو استقلالهم؟ هناك أسباب سياسية واقعية تعرقل ذلك الخيار، فمن المستحيل في الحالة السورية تصور وجود كردستان سورية تتمتع بالسيادة، ولا وجود إدلب معارضة أيضاً، لكن إذا وافقنا على ذلك فسيكون علينا فوراً الإجابة عن أسئلة أخرى؛ هل التجربة السورية ستكون غير مسبوقة؟ هل تمت تجربة شيء مثل ذلك في العالم من قبل؟ الممارسات والخبرات المتراكمة حتى هذه اللحظة تجعل من الممكن الإجابة بنعم على تلك الأسئلة.
يتم إنشاء هذا النوع من الأنظمة الفيدرالية المعقدة الموضح أعلاه بعد الصراعات الأهلية الدامية كما يتضح من تجربة جمهورية البوسنة والهرسك، فبعد حرب دامية خلال التسعينات، فرض المجتمع الدولي على هذا الجزء الذي كان ينتمي إلى يوغوسلافيا سابقاً نظاماً لا تؤثر فيه الخطوط القومية والدينية والسياسية المتقاطعة على وحدة الدولة. لا يتمتع المركز الفيدرالي لهذا النظام إلا بسلطات محدودة، لكن بسبب التشابك المعقد للمصالح والتناقضات الأصيلة بين المشاركين في هذه المنظومة، وكذلك الحفاظ على عناصر السيطرة الخارجية عليها، كانتداب ممثل أعلى للبوسنة والهرسك، يمكن الحفاظ على تكامل النظام ووحدته بفعالية.
يبدو أنه أمام سوريا فرصة لتبني مسار مماثل لذلك، وربما تختلف عناصر دولة سورية اتحادية مستقبلية بعضها عن بعض، ليس فقط على المستوى العرقي أو الديني، ولكن على المستوى السياسي أيضاً، ويمكن تحقيق التوازن بينها من خلال أطراف فاعلة خارجية معنية بحل الصراع السوري. ورغم ندرة ذلك النوع من الأنظمة الفيدرالية، يمكن لهذا القرار الحفاظ على بقاء الدولة السورية ضمن حدودها الحالية، والمساهمة في تحقيق التناغم بين الأجزاء المتباينة للدولة خلال فترة ما بعد الصراع. لتحقيق ذلك، سيكون من الضروري بطبيعة الحال حلّ كثير من المسائل والمشكلات الخاصة، لكن في ظل وجود إرادة سياسية، لن تكون تلك العقبة تعجيزية.
- المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو - خاص بـ«الشرق الأوسط»