فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

هذا نصيب شُيَّاب صاحبة الجلالة

على وقْع حالة الذبول المتدرج الذي تعيشه الصحافة في لبنان، وكيف أن البعض طوى أشرعته وأغلق الستارة، وأن البعض الآخر على الطريق نفسها، شهدت بيروت قبل أيام مناسبة غير مألوفة، تتمثل في مبادرة تكريم من إحدى الجامعات فيها «جامعة الآداب والعلوم والتكنولوجيا» (AUL) لتسعة وثلاثين من شُيَّاب صاحبة الجلالة السلطة الرابعة أمضوا حتى عام 2018، الذي هو عام التكريم، نصف قرن وأكثر في مهنة البحث عن المتاعب، مع تنوع اهتمامات كل منهم والدور الذي قام به خلال خمسين سنة كانت في مجمل أحداثها مزيجاً من الصدمات مع لحظات عابرة من الاستقرار. كان لكل من «الذهبيين» واجب أدّاه بجدارة، ومن دون أن تثنيه الصدمات، وبالذات الحروب والصراعات وأيام التشتت والخشية من المكاره، عن ترْك المهنة والبحث عن مهنة أُخرى سبيلاً للعيش.
لم يقتصر الدور لهؤلاء الشيَّاب على الصحف والمجلات اللبنانية، وإنما كان للبعض منهم حضور فاعل في مؤسسات صحافية عربية في بعض دول الخليج، ثم في باريس ولندن عندما أوجبت ظروف الحرب الأهلية بدءاً من منتصف أبريل (نيسان) 1975 وعلى مدى تسع سنوات، إصدار صحف ومجلات في باريس ولندن. وهذه استقطبت البعض من هؤلاء التسعة والثلاثين صحافياً «ذهبياً» إما يعملون في تلك الصحف أو يؤسس أفراد منهم مشاريع صحافية، بعضها صمد لبضع سنوات ثم هوى. وكانت صحيفة «الشرق الأوسط» تليها بعد بضع سنوات صحيفة «الحياة» حاضنتيْن في لندن عدداً من الصحافيين اللبنانيين. كما أن مجلات «النهار العربي والدولي» و«المستقبل» و«الوطن العربي» في باريس و«الدستور» و«التضامن» في لندن كانت هي أيضاً حاضنة كثيرين باتوا الآن شيَّاب صاحبة الجلالة بعدما كانوا قبل أربعة عقود من صحافة الـ«بان أراب» في عز الشباب، ومن الجنود المجلِّين في تقديم المادة الصحافية التي يطيب للعرب كل في وطنه قراءتها.
وضعت الحرب اللبنانية أوزارها بالعلاج الذي يشفي والمتمثل بـ«اتفاق الطائف» وعاد كثيرون من أسراب الطيور المهاجرة ليجدوا أن الصحف والمجلات التي أمضوا أحلى سنوات العمر الصحافي عاملين فيها، على درجة من التوعك؛ فلم تعد كما حالها في الزمن الذي مضى، لكنها مع ذلك تجاهد من أجل الصمود. ويوماً تلو آخر تتسع مساحة الذبول ويجد الصحافيون، وبالذات الذين يقتربون من سبعينية العمر وثمانينيته أنهم في مهب رياح الإقفال. وعندما أصدرت صحيفة «السفير» العدد الأخير ذا الرقم 13551 يوم السبت 31 ديسمبر (كانون الأول) 2016، أي في مثل هذه الأيام قبل سنتيْن وبعنوان: الوطن بلا «السفير»، كان معنى ذلك أن مسلسل إسدال الستارة بدأ عملياً وستتعدد الحلقات. وجاء الإسدال الثاني يوم الاثنين 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2018 يتمثل بقرار إحدى قلاع الإعلام اللبناني «دار الصياد» ذات المجلات المتنوعة وصحيفة «الأنوار» اليومية التوقف عن الصدور يؤكد احتمال توالي اتخاذ الخطوات المؤلمة، أي أن تتوقف الصحف عن الصدور ما دامت مقومات الإصدار من إعلانات ومساندات غير متوفرة بما يفي بالمتطلبات.
على وقْع هذه الحالة المؤلمة واحتمال انطفاء شمعة الصحافة الورقية التي لطالما كانت إحدى معالم الخصوصية اللبنانية، جاءت مبادرة «جامعة الآداب والعلوم والتكنولوجيا في لبنانAUL»، وفيما نحو ثلاثمائة إعلامي لبناني بين محررين وإداريين ومصممين باتوا من دون عمل. فالمألوف أن الواحد من هؤلاء ينتقل من صحيفة إلى أُخرى تبعاً لظروف تخصه أو تعني الصحيفة التي يعمل فيها. أما أن تتوقف صحف عن الصدور وليس في قدرة المتبقين استيعاب أحد، خصوصاً أنها بدورها وفي محاولة لتدارُك التوقف أنهت خدمات العشرات من الصحافيين والفنيين والإداريين، فهذا يعني نشوء البطالة الصحافية؛ ذلك أن الصحافي لا يمكنه، وخصوصاً بعد سنوات يمضيها في هذه المهنة، العمل في مهنة أُخرى.
الذي يخفف من وطأة هذه الحال على نفوس شُيَّاب صاحبة الجلالة وكذلك على الجيل التالي الذي جاء بعدهم، أن أحوال عموم الوطن ليست أفضل من أحوال صاحبة الجلالة السلطة الرابعة. لكنها في أي حال مأساة معنوية، حاولت الجامعة ومن خلال جهود العميد أنطوان نجيم، ومساندة من وزير الإعلام ملحم رياشي، ونقيب الصحافة عوني الكعكي، ونقيب المحررين إلياس عون (بات جوزف القصيفي هو النقيب قبل أيام) تكريم الشيَّاب التسعة والثلاثين؛ وذلك بإهداء درع لكل منهم، وإصدار كتاب يتضمن نبذة عن كل منهم وما قدَّمه هؤلاء في سنوات على مدى ستة عقود من نشاطات وإسهامات ومؤلفات. وهذه المبادرة تنسجم مع قول الشاعر «لا خيل عندي أُهديها ولا مال... فليسعف النطق إن لم تسعف الحال».
وهي في كل الأحوال مبادرة تستحق الشكر من جانب الشُيَّاب جنود صاحبة الجلالة وهم حسب سنة بداية انتسابهم النقابي: (إميل خوري. عزت صافي. جان كميد. موريس كلداوي. جورج شامي. حكمة أبو زيد. أنيس مسلم. إياد موصللي. جورج أبو معشر. بديع نجم. منير رافع. حسين قطيش. رؤوف شحوري. عاطف السمرا. كريستيان ميرفيل. كمال فضل الله. جاك عقل. محمود غزالي. إيفلين مسعود. أنطوان الخوري. علي بلوط. فؤاد أبو زيد. كميل منسى. إلياس الديري. فؤاد مطر. رشيد سنو. سعيد ناصر الدين. رفيق خوري. مهى سمارة. غسان صقر. فؤاد دعبول. إدمون صعب. ميشال رعد. عادل مالك. حنا عنبر. خليل الخوري. ليلى بديع. جوزف أبي ضاهر).
والشكر موصول للرئيس ميشال عون الذي خص الكتاب التوثيقي التكريمي المعنون «مجد لبنان الصحافة أُعطي لهم» بمقدمة ذات تسمية «تحية إلى رُسل الصحافة» تضمنت قوله:
أمام رجالات من المكرَّمين خبروا قوة الصحافة، وانضباطها، ومتاعبها في مواجهة طغيان السلطة في بعض المرات، ننحني لحبر أقلامهم الذي يسري في وجدان الوطن ورسالته، والذي ساهم في جعْل لبنان ما هو عليه، بلد الإشعاع والانفتاح والحرية. ودعوتنا إلى جيل جديد من الإعلاميين أن يستقي من خبرة الحرية المسؤولة التي عجنت الصحافة اللبنانية، ويدرك أن كلمته قادرة على البناء والهدم، وعلى القتل والشفاء، وهناك خطوة واحدة تفصل بين هذيْن الحديْن تكمن في ضمير المهنة، والإيمان بأن المواطَنة الحقيقية هي التزام بخير الوطن والشعب، وبالقيم العليا التي إذا ما تحللت تقود معها البلاد إلى الهاوية.
وكأنما الرئيس عون يريد من كلمات التعويض المعنوي هذه القول مع بعض التعديل: «أولئك صحافيونا فجئني بمثلهم»...
أعاد الله العافية إلى الصحافة اللبنانية.