وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

اتفاق «أوبك»... ما الذي تغيّر هذه المرة؟

لقد كان مشهداً معتاداً أن نرى الصحافيين ينتظرون لساعات طويلة أمام مبنى الأمانة العامة لمنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، في انتظار خروج الوزراء للتصريح لهم عقب انتهاء اجتماعهم الوزاري الدوري. إلا أن الانتظار كان أطول من المعتاد في اجتماع يوم السادس من ديسمبر (كانون الأول) الجاري.
لقد استغرق الوزراء وقتاً طويلاً في الاجتماع، ولم يتوصلوا إلى نتيجة، ثم خرجوا للذهاب إلى حفل العشاء، وعادوا لاستكمال النقاشات في صباح اليوم التالي، قبيل اجتماعهم بنظرائهم من خارج «أوبك». إلا أن النهاية كانت سعيدة، أو على الأقل هكذا توقعنا عندما سمعنا عن توصل تحالف «أوبك» والمنتجين المستقلين خارجها، المعروف باسم تحالف «أوبك+»، إلى اتفاق لخفض الإنتاج بأكثر من المتوقع، حيث كان المتوقع أن يكون الخفض مليون برميل يومياً للتحالف، إلا أن الإعلان كان عن تخفيض بنحو 1.2 مليون برميل يومياً، نصيب «أوبك» منها 800 ألف برميل، و400 ألف للمنتجين المستقلين، غالبيتها ستأتي من روسيا.
كانت لحظة الإعلان في ديسمبر (كانون الأول) 2018 شبيهة بلحظة الإعلان الأول لخفض الإنتاج في أواخر عام 2016، لكن التأثير على السوق لم يكن نفسه. وكانت المفاجأة أن السوق تفاعلت بشكل بسيط مع الاتفاق، ثم عادت للظهور التكهنات السلبية بأن الاتفاق لن يحقق المأمول منه، وبدأت التذبذبات السعرية تعود من جديد.
الدول نفسها، والوزراء نفسهم تقريباً، ومع هذا لم تستجب السوق كما كان متوقعاً لها، فما الذي تغير هذه المرة؟
إنه أمر محير فعلاً، خصوصاً أن «أوبك+» أثبتت للسوق أنها قادرة على التخفيض، وعلى الالتزام بالتخفيضات، وعلى تحقيق الأهداف التي يضعها التحالف، ولكن كل هذا لم يكن كافياً للسوق، والسبب في وجهة نظري يكمن في أمر واحد، وهو: الجو العام للاتفاق.
ففي 2016، كانت هناك رغبة حقيقية وجهود قوية معلنة، سياسية وغير سياسية، ورحلات مكوكية للوزراء، وزيارات على مستوى رؤساء الدول؛ كل هذه الرسائل أعطت السوق انطباعاً بأن هناك رغبة كبيرة في تخفيض الإنتاج. وحتى في بداية الاتفاق، عندما كانت الأمور ضبابية، وكانت هناك شكوك قوية جداً في نجاح الاتفاق، كانت الجهود المبذولة تأكيدات كافية أن هناك نوراً في آخر النفق، مهما كان النفق مظلماً.
هذه المرة، لم تتوافر هذه العوامل، بل كانت الأجواء قبيل الاجتماع سلبية. فمن ناحية، أبدت كثير من الدول رغبتها في زيادة إنتاجها العام المقبل، وكان هناك مقاومة كبيرة لتخفيض الإنتاج من الشركات الروسية، وزاد ضغط الرئيس الأميركي دونالد ترمب على «أوبك»، في تغريداته، الطين بلة.
«أوبك+» قامت بفعل الشيء الصحيح، ولكنها لم تجهز له التجهيز المناسب إعلامياً، ولم تكن الرسائل كافية لإقناع السوق بجدية الاتفاق هذه المرة. ولم تتمكن «أوبك» من إقناع السوق بأن جهودها ستكون كافية لمواجهة أي ارتفاع من النفط الصخري الأميركي في العام المقبل، أو للتكيف مع أي هبوط في الطلب، ولهذا صعدت الأسعار ثم عادت للهبوط.
وهناك مشكلة جانبية أخرى، وهي ظن «أوبك» أنها لا تزال قادرة على تحريك السوق كما تريد هي. والذي ينظر للأسعار وتقلباتها يجد أن اتفاق «أوبك+» منذ بدايته لم يكن هو الدافع الرئيسي لصعود الأسعار، بل تم الترويج له كذلك من قبل جهات كثيرة، ومحللين وإعلاميين وكتاب هدفهم إرضاء وزراء «أوبك»، أو الظهور معهم للاحتفال بالإنجاز الذي حققه التحالف. ورأينا في العام الجاري وأواخر الماضي كم أن كثيراً من المناسبات لـ«أوبك+» كانت زاخرة بالاحتفاليات.
كل هذه الاحتفاليات والبهرجة الإعلامية التي يقودها إعلاميون (أغلبهم من جنسيات غربية، يمتلكون شركات إعلامية خاصة تعمل مع دول «أوبك»، والبعض الآخر منهم كتاب ينتمون لدول المنظمة) أخفت حقيقة الأمر على الجميع، لدرجة جعلت «أوبك+» تبدو وكأنها هي المحرك الرئيسي للأسعار.
وفي الحقيقة، فإن الأمر مختلف جداً. ففي العام الماضي، ساهمت انقطاعات في الإنتاج من الولايات المتحدة، نتيجة لإعصار هارفي وأعاصير أخرى، في خفض الإنتاج. وهذا العام، كان الطلب في النصف الأول قوياً، خصوصاً من الصين، وساهم ذلك في امتصاص كل الفوائض في الإنتاج. لقد كان الطلب القوي على النفط العامل الأكبر في نجاح الاتفاق.
إلا أن هذا لا يعني أن جهود المنتجين لم تساهم، بل ساهمت جهود المملكة، والتخفيضات الكبيرة التي قدمتها أكثر من غيرها، في نجاح الاتفاق. والأمر نفسه ينطبق على روسيا التي لعبت دوراً كبيراً. لكن على المنتجين في «أوبك+» فهم أن الأسعار والسوق أكبر حالياً من أن يتم التحكم فيها من خلال «أوبك+». والدليل على ذلك أن الأسعار تحسنت قبل اجتماع «أوبك+» هذا الشهر نتيجة للتفاؤل حول الطلب، بعد ظهور بوادر لخفة حدة الحرب التجارية بين الصين وأميركا، إضافة إلى انخفاض إنتاج كندا بنحو 325 ألف برميل يومياً.
وحتى يصبح اتفاق «أوبك» الحالي ناجحاً، فعلى دول «أوبك+» العودة إلى أسباب نجاح الاتفاق الأول، وهو إظهار الدعم السياسي الكبير للاتفاق، والجدية الكاملة في تنفيذه. لكن على «أوبك+» أن تستوعب أن ما ينجح الاتفاق هو كذلك العوامل الأخرى خارج الاتفاق، وأهمها حالة الطلب وحالة المخزونات التي انخفضت في العام الماضي بسبب استهداف مباشر من «أوبك+» لها.