حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

باريس تحترق!

يتابع العالم باهتمام ودهشة ما يجري في باريس تحديداً أو فرنسا عموماً، من احتجاجات ومظاهرات تحولت مع الوقت إلى شغب صريح استدعى تدخل «اليد الثقيلة» للدولة الفرنسية بقواتها وعتادها لوقف تجاوزات المحتجين.
القانون الفرنسي يسمح بالمظاهرات السلمية، فذلك حق دستوري مكفول، ولكن متى ما تحول التظاهر «السلمي» إلى «شغب» يضر بالممتلكات ويهدد الحياة وجب تدخل الدولة. ولكن يبقى السؤال المهم قائماً وهو: ماذا يريد المتظاهرون بعد أن قامت الحكومة الفرنسية بإلغاء ضريبة الوقود التي كانت سبب الاحتجاجات في المقام الأول؟ سؤال وجيه ومهم. هناك من يريد تشبيه الوضع الحالي بحقبة نابليون والإمبراطورية التابعة للويس فيليب، ويستشهدون بمقدمة رواية «البؤساء» التي تجسد هذه الحقبة للمؤلف القدير فيكتور هوغو الذي قال فيها: «تخلق العادات والقوانين في فرنسا ظرفاً اجتماعياً هو نوع من جحيم بشري».
هناك التفسيرات السريعة والسطحية لما يحدث بأن فرنسا تحتج بعنصرية ضد مهاجريها، وهذه رؤية سطحية وقاصرة، ففرنسا خطت مراحل عظيمة في الانصهار مع مجموعات هاجرت إليها، ورأينا الصيف الذي مضى كيف احتفى الفرنسيون بمنتخب بلادهم الذي فاز بكأس العالم، وهو المكون من نجوم من أصول مهاجرة، ومنحت أهم جوائزها الأدبية لكثير من نخب الأدب من أصول غير فرنسية، كأمين معلوف والطاهر بن جلون وميلان كونديرا وغيرهم. كذلك تبوأ كثير من المهاجرين مناصب إدارية تنفيذية في غاية الأهمية في الحكومة الفرنسية.
واقع الأمر يقول إن الرئيس إيمانويل ماكرون هو من أشجع الرؤساء في تاريخ فرنسا المعاصر، إذ تمكن من أخذ أهم القرارات التي تبدأ في تخليص فرنسا من إرث الاشتراكية الثقيل الذي يكبلها ويشل اقتصادها ويحد من انطلاقها ويجعلها بيئة منفرة للاستثمار مقارنة بألمانيا مثلاً، ذلك على الرغم من وجود عدد مهم جداً من الشركات الفرنسية القوية والناجحة والمميزة. ولكن هناك ضرائب مجحفة وقوانين صعبة تجعل الكفة تميل ضد الشركات، وكما يقولون في فرنسا «أن تطلّق زوجتك أسهل من أن تفصل موظفاً في شركتك». ولكن هناك قوى عميقة تكالبت على ماكرون، منها قوى اليمين المتطرف والدولة العميقة نفسها. ماكرون جاء إلى الحكم بعد مفاجأة انتخابية أدهشت الجميع، فهو روج لنفسه على أنه المرشح المضاد للنخبة السياسية، ولكنه في الحقيقة ابن النخبة نفسها، فهو قد أتم تعليمه في أهم مدارس فرنسا وجامعاتها، وعمل مصرفياً استثمارياً في بنك مرموق. ماكرون لن يسقط، فهو رئيس منتخب وبقيت سنوات على فترته، والدستور يحميه والأغلبية البرلمانية في صفه، ولكن ما يحصل اليوم يضعف وضعه في الشارع السياسي، ويصور أن هناك معارضة ممنهجة وتصعيدية تهدد هيبة الدولة ومؤسساتها، وهو الأمر الذي تطلب إنزال أعداد غير مسبوقة من قوات الأمن العسكرية والمدنية في ظروف غير حربية.
«باريس تحترق» كان عنوان الأخبار حول العالم في الحرب العالمية الثانية بعد الدخول النازي العنيف إلى هذه المدينة، الجميلة. اليوم، العنوان نفسه يتكرر ولكن لأسباب داخلية ومختلفة. ما يحصل في باريس هو جزء من المشهد الأوروبي الذي يعاد تشكيله لأسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية، ولكن الدول الديمقراطية لديها قوة القانون والدستور والبرلمان لحماية المؤسسات، ويبقى دوماً فصل السلطات هو أهم عنصر داعم للبعد عن طغيان السلطة.
العنف لا مكانة له ولذلك هو مستغرب، ولكن هناك تحدياً سياسياً يواجه أوروبا وفرنسا ولا شك.