محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

استراتيجيات الاستنزاف

منذ بدء الخليقة، أيقن الإنسان أنه لن يحصل على مراده إلا عبر صورة من صور التفاوض. ولذا كانت التجمعات البشرية أو القبائل، تبحث عن بدائل أخرى غير المواجهة الحادة. فأنقذ مبدأ التفاوض البشرية.
المفارقة أن البشر نجحوا في التفنن في تطوير أساليب كثيرة للتفاوض، وفي مقدمتها «استراتيجية الاستنزاف». فكما أن هناك حرباً لاستنزاف مقدرات العدو وجهوده، فإننا كخصوم أفراد، يمارس علينا نوع من أنواع استنزاف طاقاتنا، حتى نكون مضطرين للتسليم لما تبقى من شروط، قد تكون مجحفة بحقنا. ولذا فإن وسيلة الاستنزاف ترفع شعار «أنتصر أنا ويخسر خصمي».
من صور الاستنزاف في التفاوض، إلهاء الخصم بأمور هامشية جداً، مثل إشغاله ببنود في العقد نتظاهر بأنها جوهرية بالنسبة لنا، حتى نصرف نظر الخصم عن أمور مفصلية نخشى أن يلتفت إليها.
ولذا يلجأ القادة الحاذقون إلى استنزاف الآخرين بأسئلة كثيرة، وتغييرات لأمور هي سطحية؛ لكننا نتظاهر بأنها مفصلية بالنسبة إلينا. وكذلك الحال حينما يمطر المسؤولون الجانب الآخر بوابل من الطلبات والاجتماعات المكلفة مادياً، كالسفر أو دفع مصاريف شتى، حتى يضيق بذلك الخصم فيسارع بإغلاق «صنبور» الاستنزاف، بموافقة متسرعة.
ويلجأ البعض أيضاً إلى سياسة «الإيهام بالخلاف» الداخلي، حول قضية عالقة، ليشغل تفكير أنداده ويشتتهم، كأن يقول مثلاً: «الوزير أو الوكيل أو المدير العام غير قابل بهذه الجزئية، ولذا نحتاج لأن نجلس معه مرة أخرى لنحاول إقناعه بطلبك، وربما يرفض»!
وقبل أي محاولة استنزاف، يتعين تأمل الخصم جيداً، ومعرفة مدى قبوله للمشروع برمته من عدمه، فقد ينسحب من التفاوض أو المشروع كلية؛ لأنه غير مهتم أصلاً. فلا يمكن أن نستنزف طرفاً غير مقتنع بالصفقة أو الفكرة أو الحل.
المفاوضات، في الأصل، غرضها نبيل؛ لكن البعض قد يستخدمها لتمرير الأكاذيب على الناس، فيحيد عن جادة المهنية بارتكابه خطأ مركباً.