د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

كارلوس غصن

فجر خبر اعتقال «كارلوس غصن» الأسبوع الماضي مفاجأة كبرى في العالم، حيث ألقت الشرطة اليابانية القبض عليه بتهم منها: عدم الإفصاح عن كامل دخله منذ عام 2011 إلى 2016 والذي بلغ 51 مليون دولار، إضافة إلى تهم أخرى مثل الانتفاع الشخصي بممتلكات شركة «نيسان»، وتجاوز مجلس الإدارة في اتخاذ قرارات حساسة.
هذه هي الأسباب المعلنة عن اعتقال «غصن»، الرجل الذي يعتبر أسطورة حية في مجال صناعة السيارات، وحتى لا تستنكر هذه التسمية، يكفي معرفة بعض المعلومات عن «غصن» والمسمى بـ«قاتل التكلفة»، وكيف تدرج حتى وصل إلى أن يكون أول تنفيذي يدير شركتين دوليتين في وقت واحد هما «نيسان» اليابانية و«رينو» الفرنسية، إضافة إلى كونه رئيس مجلس إدارة «ميتسوبيشي».
ولد «غصن» في البرازيل لعائلة لبنانية مهاجرة، قبل أن ينتقل لبيروت ويدرس في مدرسة فرنسية هناك، ومع تنامي ثقافته الفرنسية، درس الهندسة في جامعة باريسية، لينتهي به المطاف في شركة «رينو» الفرنسية لصناعات السيارات. وحين ذاع صيت «غصن» في «رينو»، اختارته ليكون المدير التنفيذي للعمليات حين أنقذت شركة «نيسان» من الإفلاس في عام 1999، حينها اشترت الشركة الفرنسية حصة من «نيسان» (تبلغ هذه الحصة الآن 44 في المائة)، ليبدأ تحالف شركتين دوليتين، تطغى فيه السطوة الفرنسية عليهما. خلال أقل من 6 سنوات من عمل «غصن» في شركة «نيسان»، أصبحت الشركة التي كانت خاسرة وعلى وشك الإفلاس، شركة رابحة بأرباح تزيد على 7 مليارات دولار، وانمحت ديونها التي تعدت 23 مليار دولار، ووصلت إلى أن تملك أعلى هامش ربح في صناعة السيارات. ولا عجب أن يصبح «غصن» بعدها مديراً تنفيذياً لـ«نيسان»، بل إنه أصبح بطلاً قومياً في اليابان، لدرجة أنه حصل على المركز السابع في تصويت أجراه اليابانيون على من يستحق أن يصبح رئيس الوزراء في اليابان! وأصبح بطلاً لإحدى القصص المصورة اليابانية!.
كان اسم «كارلوس غصن» وحده يكفي لزيادة قيمة الشركة السوقية. ففي عام 2005، ارتبط اسمه مع شركتي «فورد» و«جنرال موتورز» الأميركيتين، وحينها كتبت صحيفة «الإيكونيميست» أن القيمة السوقية للشركتين قد تقفز 10 مليارات دولار في حال تولى «غصن» إدارتها التنفيذية. إلا أن وجوده في شركة «نيسان» كان ضرورياً لأسباب كثيرة، الأولى أنه على ارتباط وثيق بشركة «رينو» الفرنسية (والتي أصبح مديرا تنفيذيا لها في السنة ذاتها)، والثانية أنه وبحكم عدم انتمائه العرقي لفرنسا، لا يُرى من الجانب الياباني على أنه فرنسي، وهو ما يهم اليابانيين الذين لا يريدون سيطرة فرنسية على شركة يرتبط اسمها كثيرا باليابان.
وبإدارته الصارمة، تمكن غصن من توحيد المصالح بين الشركتين، حيث استفادت «نيسان» من وجود «رينو» في أميركا اللاتينية، واستفادت الأخيرة من حصة «نيسان» السوقية في السوق الآسيوية، وعملت الشركتان بشكل متواز في تطوير الصناعة لتقليل المخاطر في توجهات صناعة السيارات. وكان ذلك كله بسبب إدارة الشركتين من شخص واحد موثوق به من الجانبين الفرنسي والياباني.
إلا أن الأمور لم تستمر كما هي حيث ألقي القبض على «غصن» بتهم متعددة، ليظهر بعدها خَلَفه الياباني معبراً عن معاداته لـ«غصن» وأسلوب إدارته الذي وصفه بالاستبدادي والمركزي. وبالمقابل عبر المتحيزون لـ«غصن» عن أن لاعتقال «غصن» مآرب أخرى، فهم يرون أن الشركات اليابانية عادة ما تعوض مديريها عن انخفاض مرتباتهم بمميزات أخرى لا تذكر بشكل رسمي، وأن الشركة كانت على علم بما يحصل عليه «غصن» من مميزات مالية منذ سنوات. ويبررون ما سموه «الوشاية» بـ«غصن» بعدة تبريرات، أولها محاولة «نيسان» الاستفادة من نظام الحكومة اليابانية الجديد والذي يعطي تسهيلات للشركات التي تكشف عن الفساد فيها. وهذا تبرير واهٍ، لأن تضرر «نيسان» من خروج «غصن» أكبر من هذه الفائدة. ثاني هذه الأسباب يبدو أكثر منطقية، وهو أن «غصن» في أواخر الأشهر كان يسعى لاندماج الشركتين. ولا يريد اليابانيون أن تسيطر فرنسا على شركة يابانية عريقة، خاصة مع الأخبار التي وردت بأن رئيس الوزراء الفرنسي نفسه داعم لهذا الاندماج، مما يعني تسييس هذا الاندماج، وخصوصاً مع ضعف موقف «نيسان» التي لا تملك إلى 15 في المائة من «رينو» وهي حصة لا تعطيها حق التصويت في «رينو» بينما تملك رينو «44 في المائة» من نيسان إضافة إلى حق التصويت. وبما أن «نيسان» تملك 34 في المائة من شركة «ميتسوبيشي»، فإن «رينو» تملك جزءا منها بالمقابل.
لذلك فالكثيرون يرون أن «غصن» ذهب ضحية لحرب سياسية خفية بين اليابان وفرنسا. فاليابانيون يرون أن سيطرة الشركة الفرنسية على «نيسان» تعدت الحدود، ومع إشاعات اندماج الشركتين، بدا لليابانيين أن الأمور بدأت تخرج عن السيطرة، وكان لا بد من أن يكف الفرنسيون عن محاولات الاندماج. وسواء كان «غصن» مذنبا فيما وجه إليه أم لا، فإنه رجل من الصعب تكراره، فما فعله بشركة «نيسان» في سنوات قليلة لا يمكن إنكاره، وحتى مع محاولات خَلَفه التقليل منه بقوله إن ما تحقق كان بعمل جماعي، فأين كان هذا العمل الجماعي قبل «غصن»؟. والواقع أن وجود غصن كان علامة فارقة لكل من الشركتين، حتى إن عملاق صناعة السيارات «جنرال موتورز» كادت أن تنضم إلى هذا التحالف في عام 2007، وهو شيء لم يكن ليناقش، لولا وجود «كارلوس غصن» على رأس هذا التحالف.