محمد المخزنجي
كاتب مصري
TT

نموس تشيخوف الأربعة

أُصدِّق المثل القائل إن «الطيور على أشكالها تقع»، ليس فقط كمجاز يشير إلى شراكات البشر مع بعضهم البعض، ولكن أيضاً إلى شراكات البشر مع الحيوانات، فاختيار إنسان لحيوان أليف، أو بري، معين، ليصاحبه، إنما يعكس شيئاً مشتركاً من صفات الحيوان الظاهرة مع صفات الإنسان الكامنة، التي يخفيها، أو تخفيها الانطباعات السطحية عنه. وتشيخوف العظيم، سيد أدب القصة الإنسانية الحديثة، كان له في ذلك قصة...
بعد أن قضى تشيخوف سبعة أشهر قاسية يتحرى عذابات المسجونين والمنفيين في جزيرة سخالين الرهيبة في أقصى شرق روسيا، اختار أن يعود عن طريق البحر، لأن صحته التي بدأ مرض السل يقرضها لم تكن تحتمل قسوة أصقاع روسيا البرية المترامية. وفي عودته البحرية دار دورة هائلة حتى وطأت قدماه الأرض في ميناء أوديسا ومنه براً إلى موسكو. وكانت له وقفات في معظم البلدان التي مرت بها السفينة التي تحمله، لكن وقفة واحدة استولت على مشاعره، هي وقفته في جزيرة سيلان (سريلانكا حالياً).
يقول هنري ترويا في أفضل وأَضْفى سيرة كُتِبَت عن تشيخوف: «بدت له جزيرة سيلان كما لو أنها جنة على الأرض. وسحرته أولاً وقبل كل شيء نساؤها ذوات البشرة الداكنة والابتسامات الغامضة، وقد كتب لأحد أقرب أصدقائه عن ذلك رسالة جاء فيها: حين أرزق بأطفال فسأقول لهم بلهجة فيها تفاخر: اسمعوا يا أبناء الـ...! في أيام شبابي أقمت علاقة مع هندية سوداء العينين. ولكن أتعرفون أين؟ في بستان جوز الهند وفي ليلة مقمرة!». ويُعلِّق هنري ترويا على هذه الوقفة: «وقد استعوض تشيخوف عدم استطاعته إحضار عشيقة سنهالية بإحضار ثلاثة من حيوانات النمس على أمل ترويضها وأقلمتها في روسيا!».
هذه النموس الثلاثة كانت واقعة حقيقية، نزل بها إلى البر في أوديسا وصحبته في القطار الذي استقله إلى تولا حيث كانت أمه وشقيقه ينتظرانه في محطتها، وقد التقيا به في مطعم المحطة ضمن مشهد مدهش، تحيط به جمهرة من المُعجبين والمتعجبين بينما راحت حيوانات النمس الثلاثة تشاركه الطعام. وبعد العناق العائلي والدموع والفرح والدهشة، توجه السداسي التشيخوفي إلى بيت القبيلة التشيخوفية في موسكو!
كان مسكنه، كما كل الأماكن التي سكنها، ضاجاً بالأصدقاء والصحافيين والمستطلعين. وزاد الأمر سوءاً أن حيوانات النمس الثلاثة بدأت بإثارة الكلاب والقطط في المنطقة. وبما أنها لم تجد ثعابين كوبرا لتهاجمها - كما كتب ترويا - فقد تحولت إلى السراويل والفساتين والأحذية والطعام وزجاجات الحبر والمزهريات والقفازات والقبعات لتعبث بها. وقد كتب تشيخوف لأحد أصدقائه يقول عن نموسه: «هي حيوانات بحجم القطط، مرحة نبيهة، وأول ما تفعله حين تواجه شخصاً هو أن يبحث الواحد منها في جيوب ذلك الشخص للتعرف على ما فيها. وحينما تحبسها في غرفة فإنها تبدأ في الصراخ».
بعد فترة وجيزة قلبت هذه النموس وضع البيت رأساً على عقب بحيث اضطر إلى إهداء اثنين منها لحديقة حيوانات موسكو على أمل أن يتمكن من احتمال التصرفات الغريبة للثالث. لكن الثالث تاه في أحد الأيام عندما تسلل إلى الغابة مما سبب انزعاجاً شديداً للعائلة لمعرفتهم كم كان تشيخوف متعلقاً به، وسرعان ما غمر الفرح الجميع حين ظهر النمس من جديد، لكن ألاعيبه لم تنتهِ، لهذا قرر تشيخوف «على الرغم من تأنيب الضمير» - على حد تعبير هنري ترويا - أن يرسل هذا الحيوان الصغير الشقي لينضم إلى شقيقيه في حديقة حيوانات موسكو. لكن نمساً رابعاً ظل يرافق تشيخوف!
كان النمس الرابع داخل تشيخوف نفسه، الفنان، المرح، النبيه، اللطيف، الشقي، والمُستكشف الدؤوب للمخبوء في الجيوب النفسية لبني الإنسان. أما نمسيته القتالية، بالغة الشجاعة والرشاقة والخفة في مواجهة أفاعي كوبرا البشر، والظَفْر الجميل بالفوز عليها، فهي قصة تستحق وقفة أخرى!+