في الشهر المقبل، سوف تحتفل مجلة «العربي» الكويتية، بمرور ستين عاماً على صدور العدد الأول منها في ديسمبر (كانون الأول) 1958، وسوف تكون هذه فرصة سانحة، ليس للتأمل فيما فات من خطوات المشوار، فما فات قد فات ولا يتبقى منه غير دروسه، ولكنها سوف تكون فرصة مُتاحة للنظر فيما هو قادم أكثر؛ لأن سن الستين إذا كانت قد ارتبطت لدى البشر بأنها سن الإحالة إلى المعاش، وأنها سن الابتعاد عن تولي الوظائف الحكومية، وأنها سن بلوغ الغاية في وظائف الإدارة، فهي في نظر الدكتور زكي نجيب محمود، مثلاً، سن البدء في العطاء المتدفق على مستوى مختلف. إنها في تقديره سن الانتقال من مرحلة من الأداء في حياة الكاتب بالذات، إلى مرحلة أخرى ممتلئة بالإبداع!
وقد كان الدكتور زكي نجيب يضرب المثل على ذلك بنفسه، وكان يدلل على صدق ما يقوله في هذا السياق، بأن أهم مؤلفاته، وخصوصاً ثلاثيته الشهيرة عن التراث العربي، قد صدرت بعد بلوغه سن الستين، وكان هو على كل حال واحداً من كُتاب المجلة الثابتين لفترة طويلة، وكان يضع أمام قارئها مع صدور كل عدد جديد، تجربة من بين تجارب دفتر ذكرياته الحافل بالكثير والمثير!
كانت الثلاثية هي: «المعقول واللامعقول في تراثنا العربي»، و«ثقافتنا في مواجهة العصر»، و«تجديد الفكر العربي». وفي الكتب الثلاثة تعرض الرجل للتراث، ربما كما لم يتعرض له أحد من قبل؛ لأن تعرضه كان يستند إلى النظر العقلي وحده، وكان ذلك على امتداد فترة طالت لسنوات من الاعتكاف على عرض عيون ذلك التراث على منطق العقل دون سواه، ثم كان من زاوية راحت تتساءل في إلحاح: بماذا يمكن أن يسعفنا، فنأخذه وننتفع بما فيه ونباهي به الآخرين في العالم من حولنا، وماذا على خلاف ذلك، فلا يكون أمامنا سوى أن ندعه في مكانه جزءاً من التاريخ المحفوظ في ماضينا البعيد؟!
وإذا كانت «العربي» قد تناوب على رئاسة تحريرها، خمسة من رؤساء التحرير، بدأوا بالدكتور أحمد زكي، أحد مديري جامعة القاهرة، وعميد كلية العلوم فيها، وعضو مجمع اللغة العربية الشهير في القاهرة بمجمع الخالدين، ثم وصلوا إلى الدكتور عادل سالم العبد الجادر، رئيس التحرير الحالي، مروراً بثلاثة، هم الأستاذ أحمد بهاء الدين، والدكتور محمد الرميحي، والدكتور سليمان العسكري، فالوحيد من بينهم الذي كتب سيرة ذاتية، أو ما يشبه السيرة الذاتية، هو بهاء الدين، وقد أصدرها عن «دار الهلال» في القاهرة، وجعلها تحت هذا العنوان: «محاوراتي مع السادات»!
ولأن العنوان كما نراه، ولأن الأستاذ بهاء قد اختار سنوات السادات العشر في الحكم ليكتب عنها، فلقد كان من المتوقع أن يتناول، ولو من بعيد، تجربته في رئاسة تحرير «العربي» ضمن حديثه عن سنواته مع السادات، فهو قد رأس تحريرها من 1976 إلى 1982، ولكنه لسبب ما، لم يفعل، وكان كل ما ذكره عن التجربة أشياء عابرة لا تمس صميمها في شيء، وكانت هذه الأشياء العابرة من قبيل أنه استقبل عرض رئاسة تحرير المجلة بترحيب كبير؛ لأنه وقتها كان قد ترك رئاسة تحرير «الأهرام»، ولأن الأطباء كانوا قد نصحوه بالبعد عن التوتر النفسي والضغط العصبي، فجاءت رئاسة التحرير في الكويت في وقتها تماماً، واشترط عليه السادات أن يظل يكتب مقالته الأسبوعية التي كان يكتبها تحت عنوان «حديث الأحد» في «الأهرام»، فلم يملك إلا أن يفعل!
إن رئاسة التحرير في مثل حالة «العربي»، هي رئاسة تحرير مشروع ثقافي كبير، أكثر منها رئاسة تحرير مجلة تصدر عند بداية كل شهر، والمشروع في حالة هذه المجلة بدوره، هو جزء من مشروع ثقافي أكبر وأشمل، تؤمن الكويت بأن عليها أن تقوم به تجاه كافة العرب، ولذلك، لم يكن على سبيل الصدفة، أن يكون شعارها الثابت الذي لا تزال ترفعه على صدر الصفحة التالية للغلاف، هو: «مجلة يكتبها عرب ليقرأها كل العرب». ولا كان على سبيل الصدفة أيضاً، أن يكون الشيخ صباح الأحمد، أمير البلاد الحالي، واحداً من بين ثلاثة رجال جلسوا ليضعوا أساسها قبل ستة عقود من الزمان!
وفي حفل دعا إليه محمد صالح الذويخ، السفير الكويتي في القاهرة، والدكتور أحمد رشيد المطيري، المستشار الثقافي في السفارة، روى الدكتور محمد أبو الفضل بدران، نائب رئيس جامعة «جنوب الوادي» في صعيد مصر، أنه في صباه كان يترقب عدد المجلة الجديد عند مطلع كل شهر، بشغف ليس له مثيل، وأنه كان ينتظرها بفرح طفل ينتظر لعبته الأثيرة على قلبه، وأن أباه كان يرسله من قريته البعيدة إلى بائع الصحف على رصيف محطة السكة الحديد في المدينة، ليحصل على النسخة الجديدة في موعدها شهرياً، وأن نصيب البائع كان ثلاثاً فقط من النُسخ من كل عدد، وأنه كان يحجز واحدة منها لوالد الدكتور أبو الفضل، بتوصية مسبقة، فكان إذا وصلته أخفاها عن الأعين، فلا يفرط فيها بأي ثمن، وكانت النسختان الأخريان محجوزتين مسبقاً أيضاً! واحدة لناظر المدرسة في القرية، والثانية لشيخ من شيوخ الناحية!
وما رواه نائب رئيس جامعة «جنوب الوادي»، لم يكن بدعة فريدة في زمانه، ولا في مكانه، ولكنه كان يتكرر على مستوى كثير من القرى والمدن في مصر، وفي غير مصر من بلاد العرب، لسببين: أولهما أن المجلة تتيح للقارئ العربي وجبة عقلية شهرية رفيعة المستوى حقاً، والثاني أنها تفعل ذلك بسعر زهيد للغاية؛ بل سعر لا يكاد يُذكر، ويكفي الإشارة هنا إلى أنها لا تزال تباع في القاهرة، بجنيه واحد وربع الجنيه، وهو سعر يساوي تقريباً نصف سعر الصحيفة اليومية!
وقد كان الخوف فيما بعد تجربة الغزو المريرة، أن تكف الكويت يديها عن المشروع الثقافي الأعم، الذي يضم المجلة فيما يضم، ومعها كثير من الدوريات، والكتب، والإصدارات، من نوع كتاب «عالم المعرفة»، ومجلة «المسرح العالمي»، ومجلة «عالم الفكر»، وغيرها وغيرها، ولكن التجربة رغم مرارتها قد زادت الحكومة الكويتية تمسكاً بأهداب دور ثقافي عام، ليس من السهل أن تتبناه عاصمة عربية في عالمنا المعاصر، ثم تواصل دعمه، وتقديمه، وإتاحته لرواده، وطالبيه، ومتابعيه، ومنتظريه، رغم كل الظروف!
فلقد جاءت جريمة الغزو في وقتها، وكأنها رد الجميل للكويتيين، على دور عربي لم تكن تتخلف بلادهم عن أدائه على المستويات كلها، وليس على المستوى الثقافي الذي اختارته بطريقتها وحده! كان هذا مؤلماً، ولكن الرهان كان دائماً على قدرة البلاد على تجاوز التجربة المُرة، ثم على القفز فوقها، ولم يكن استمرار المجلة وشقيقاتها هو وحده الدليل على قدرة الكويت على فعل ذلك، ففي العام الماضي انعقد مؤتمر إعادة إعمار العراق في الكويت نفسها التي غزاها عراق صدام حسين، وكان هذا في حد ذاته إشارة لا تخطئها العين!
عيد ميلاد «العربي»، هو عيد ميلاد سوف يحيي ذكراه الملايين من قرائها، وممن نشأوا صغاراً على مائدة صفحاتها، وممن وجدوا فيها ما لم يجدوه في غيرها، فلقد عاش كل واحد منهم يتحرى وجودها في الأسواق في بداية كل شهر، كما تتحرى مراصد الفلك ظهور القمر!
5:4 دقيقه
TT
مشوار «العربي» يدخل العقد السابع
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة