أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

تاريخ موجز للأخبار الكاذبة

ثمة نزوع واضح لدى الرئيس دونالد ترمب لنسب الفضل لنفسه عن - تقريباً - أي شيء يحدث حوله. وربما يكون الاقتصاد الأميركي النشط على نحو مثير للدهشة، وأكبر إجراءات خفض ضريبية في التاريخ الأميركي، واختيار اثنين من قضاة المحكمة العليا خلال فترة الرئاسة الأولى، وزيادة أغلبية الحزب الحاكم في مجلس الشيوخ خلال انتخابات التجديد النصفي، وذلك للمرة الأولى منذ 105 أعوام، بعض الأشياء التي ينسب ترمب عنها الفضل لنفسه. ورغم أن المرء قد يتجادل بشأن حجم الفضل الذي يعود لترمب عن هذه الأمور، فإن أحداً ليس بإمكانه رفض ادعاء ترمب بأن له فضلاً فيما يحدث على نحو قاطع وجازم.
ومع هذا، ثمة أمر واحد يمكن للمرء الوقوف بحسم في وجه ترمب بشأنه وتكذيبه، وذلك هو ادعاؤه بأنه أول من كشف النقاب عن الأخبار الكاذبة. في الواقع، يعود تاريخ الأخبار الكاذبة إلى الجذور الأولى للتاريخ البشري ذاته.
في الواقع، يعج التاريخ الإنساني المسجل بالأخبار الكاذبة. على سبيل المثال، عام 522 قبل الميلاد، وبعد وفاة الإمبراطور الفارسي قمبيز، روّجت مجموعة من الساعين نحو الوصول إلى السلطة بقيادة دارا أخباراً زائفة مفادها أن الرجل الذي خلف قمبيز ليس شقيقه وليس وريثاً شرعياً. بعد ذلك، دبرت المجموعة انقلاباً وقتلت الحاكم ومنحت التاج لدارا، رئيس المجموعة.
وانطلقت موجة أكبر من الأخبار الزائفة في صورة حكاية نسجت حول الإسكندر الأكبر، الغازي الذي لا يقهر. ومن المفترض أن الإسكندر عاش حتى عمر الـ33، وفي غضون 10 سنوات فقط تحت قيادته تمكنت مقدونيا من غزو جميع المناطق المعروفة تقريباً على وجه الأرض آنذاك، من شبه جزيرة البلقان حتى روسيا والمحيط الهندي، ومن شمال أفريقيا حتى شبه القارة الهندية ووسط آسيا والصين. ويشمل ذلك التوسع مساحة تقارب 40.000 كيلومتر؛ ما يعني أنه كان يسافر لمسافات وفترات طويلة. ومع هذا، من المفترض كذلك أن الإسكندر بنى 20 مدينة تحمل اسمه واتخذ أربع زوجات (قبل ظهور الإسلام بفترة طويلة) و«اختفى» لفترة غير معلومة من الوقت بحثاً عن ينبوع الشباب الدائم.
ونظراً لغياب سرد معاصر لمثل هذه الإنجازات المبهرة، بدأ بعض المؤرخين يتشككون في حقيقة ظهور مثل هذه الشخصية التي كان أول ظهور لها في الأدبيات اليونانية واللاتينية عام 160 بعد الميلاد، أي قرون بعد تلك الأحداث المزعومة.
أثناء الخلافة العباسية، التي اتخذت من بغداد مقراً لها، كان يجري الترويج للأخبار الزائفة من جانب قصاصين محترفين. وفي عهد الخليفة الواثق، تجاوز عدد القصاصين في بغداد 100 قاص، بعضهم أثرى من وراء نشر أخبار كاذبة لصالح أثرياء وأعيان.
أيضاً، يعج التاريخ الروسي بالقياصرة الزائفين، الذين أطلق على كل واحد منهم اسم «ديمتري الدجال»، وظهروا خلال فترة اضطرابات للمطالبة بالجلوس على العرش. وعمد هؤلاء الدجالون إلى استغلال وسائل الإعلام المتاحة في عصرهم، التي تألفت في الجزء الأكبر منها من قساوسة يعظون في الكنائس، وتجار مرتحلين. وغالباً ما كانت النتيجة اشتعال ثورة شعبية أو حرب أهلية.
ومع هذا، ساعدت الأخبار الزائفة في أحيان أخرى على إرساء السلام. مثلاً، في القرن الـ15، تورطت إسبانيا والبرتغال، وكانتا تحت حكم أبناء عمومة، في الحرب ضد بعضهما بعضاً أغلب الوقت. وحل السلام عندما منح الملك البرتغالي ما وصف أنه جزيرة غنية بالموارد في البحر المتوسط إلى نجل عمه ملك إسبانيا. ولم تكن ثمة أهمية لحقيقة أن تلك الجزيرة لم يكن لها وجود، وأن الخريطة التي قدمت للإسبان كانت تخص جزيرة سرنديب الواقعة المحيط بالهادي. وبذلك، أصبح باستطاعة الملك الإسباني ادعاء تحقيقه النصر، ونظَّم بالفعل عرضاً عسكرياً احتفالياً.
ومن بين الأمثلة الموجودة في التاريخ الأحدث، الثورة الفرنسية عام 1789 التي جرى استغلال أخبار كاذبة للترويج لها. كانت القيادات الثورية قد زعمت أن سجن الباستيل يعج بـ«مقاتلين أبطال يناضلون من أجل الشعب»، لكن عندما جرت السيطرة على المبنى، اكتشف المقتحمون أن به سبعة سجناء فقط يعاقبون عن جرائم جنائية عادية.
كما روّج الثوريون الكثير من الأكاذيب بخصوص الملكة ماري أنطوانيت. وعندما انقلبت الأوضاع وتحول مسار الأحداث لاتجاه معاكس، جرى استغلال سلاح الأخبار الكاذبة ضد قيادات الثورة. وتعرض روبسبيار، أكثر قيادات الثورة الفرنسية راديكالية، لاتهامات بأنه تزوج ابنة لويس السادس عشر سراً كخطوة أولى نحو المطالبة بأحقية الجلوس على عرش البلاد. ومكافأة له على ذلك، أعدم بالمقصلة.
من ناحيتها، أتقنت الشرطة السرية القيصرية (أوكرانا) مسألة ترويج الأخبار الكاذبة على نحو جعلها تتحول لدى العاملين بالجهاز إلى ضرب من ضروب الفن. أما الإنجاز الأكبر لـ«أوكرانا» على هذا الصعيد، فتمثل في كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» الذي شكل عاملاً مساعداً في الكثير من نظريات المؤامرة على مدار أكثر عن قرن.
عام 1879، استغل مستشار بروسيا، بسمارك، نسخة معدلة من محادثة جرت بين ملكه والسفير الفرنسي حول ولاية العهد في إسبانيا لاستفزاز الفرنسيين لدخول حرب. وبالفعل، ابتلع الفرنسيون الطعم وخسروا الحرب بجانب إقليمي الألزاس واللورين.
في بريطانيا، لا يزال ما يدعى «خطاب زينوفيف» نموذجاً للأخبار الزائفة. نشر الخطاب في صحيفة «الديلي ميل» قبل أربعة أيام من انعقاد الانتخابات عام 1924 لتأجيج القلق من أن الشيوعيين، بإيعاز من موسكو، يخططون للاستيلاء على السلطة من خلال حزب العمال إذا ما فاز بأغلبية مقاعد مجلس العموم.
في إيران، جرى استغلال أخبار كاذبة بشأن عميل يتبع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) يدعى كيرميت روزفلت؛ وذلك للإطاحة بحكومة محمد مصدق في انقلاب بلغت تكلفة تدبيره 18.000 دولار، ليصبح بذلك التغيير الأرخص للنظام على مر التاريخ.
وفي مذكراتها، ذكرت تحية كاظم، أرملة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، أنه عندما كان ينوي زوجها زيارة يوغوسلافيا، جرى إخطاره بأن «سي آي إيه» تخطط لإلقاء القبض عليه في البحر في طريق عودته للوطن. وجرى اختراع هذه الأخبار الكاذبة من جانب السوفيات ونشروها من خلال محمد حسنين هيكل، المستشار الإعلامي لعبد الناصر آنذاك. وكان الهدف دفع عبد الناصر للتوجه جواً إلى موسكو ومنها للقاهرة، ليظهر الاتحاد السوفياتي بمظهر القوة الحامية.
ولا تحمل الأخبار الكاذبة دوماً وراءها أهدافاً سياسية أو دينية، وإنما يمكن استغلالها كمحاولة لكسب مال سريع. عام 1977، أقنعت شركة بلجيكية الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان بأنها طورت طائرة قادرة على اكتشاف حقول النفط من خلال مجرد استكشاف الرائحة. وبالفعل، بلع الرئيس الفرنسي الطعم ودفع 800 مليون فرنك فرنسي، ليختفي المزورون بالثروة الضخمة.