محمد المخزنجي
كاتب مصري
TT

شَعْرَة

في مصر، بينما كان وباء الطاعون الرهيب يجتاح البلاد عام 1835، ويحصد بمنجله الأسود عشرات آلاف الأرواح، رصدت فرنسية تُدعى سوزان فوالكان باستغراب شديد، أن أناساً كانوا يلعبون الكرة في الشوارع بمنتهى الحماس، وعندما سألتهم لماذا يفعلون ذلك؟ شرحوا لها أن الشياطين - التي كانوا يتصورونها طائرة - هي التي تجلب الأوبئة، وأنها تظل ترفرف في الهواء حتى تختار فرائسها من الناس، فتهوي عليهم وتصيبهم بالوباء القاتل؛ لكن لعب الكرة يجذبها ويُلهيها، ويفوّت عليها الانقضاض بالداء الأسود على البشر.
وفي مصر أيضاً، وفي أحد مستشفيات الإسكندرية تحديداً، اكتشف روبرت كوخ ميكروب الكوليرا، وأحدث اكتشافه انقلاباً في مفاهيم أسباب الأمراض وعلاجها، فلم تكن هذه الميكروبات الدقيقة قد عُرفت من قبل. وكما في معتاد الأحوال تمترس بعض أطباء أوروبا الكبار وراء معلوماتهم القديمة. وفي مؤتمر علمي عُقِد بإحدى المدن الأوروبية عام 1883، أعلن كوخ نبأ اكتشافه على العالم، وتصدى له على الفور طبيب معارض هو الدكتور فانكوفر، وحتى يُثبت خطأ كوخ طلب شيئاً من هذه الميكروبات المزعومة، وعندما أعطاه كوخ زجاجة بها سائل يعج بميكروبات الكوليرا، تكفي لعدوى جيش كامل، سارع فانكوفر بتجرُّعها حتى آخر قطرة، ثم تمطى وتجشأ ومسح بثقة على لحيته العظيمة، ولم يحدث له شيء، لا عاجلاً، ولا آجلاً!
لغزان من ألغاز الطب، يصعب تفسيرهما بيقين قاطع؛ لكن بشيء من الاجتهاد يمكن القول في حالة لعب المصريين الكرة بحماس لتشتيت شياطين الطاعون، إن هناك معقولية لنجاة ما بهذه الوسيلة، وإن بتفسير مختلف، فهذا الجري وراء الكرة يمكن أن يشتت تركيز البراغيث الحاملة والناقلة لميكروب الطاعون، فلا تستطيع الاستقرار على جلود اللاعبين الساخنة والمغمورة بالعرق، وتطيش لسعاتها الحاملة لميكروب الطاعون، فلا تتمكن من نقل كمية من الميكروب تكفي لإحداث العدوى، وخصوصاً أن الركض والقفز والحماسة تنشط أجساد اللاعبين، وتزيد من فعالية أجهزتها المناعية. ربما! أما فانكوفر، فثمة تفسير طبي متواتر عن امتلاكه لعصارة مَعِدية استثنائية الحموضة، فتَّاكة، أهلكت ميكروبات الكوليرا على الفور.
وكطبيب خدم في كثير من مستشفيات الأمراض العقلية، أميل إلى تفسير بعض الأمور البشرية اللامعقولة بما أسميه «قوة الجنون»، وهي قوة خارقة شاهدت تجليات مذهلة لها عبر سنوات عملي الطبي، فقد رأيت مرضى يلتهمون الصابون كما لو كان قطعاً من الحلوى دون أن يصابوا بسوء، ويشربون الكيروسين فلا تحترق معداتهم، ومريضة ضئيلة في نوبة هياج تصدت لخمس ممرضات شابات فارعات، تظاهرهن خمس تومرجيات من وزن ثقيل الثقيل، فجندلتهن جميعاً، ثم طيرتني في طريقها وهي تخرج من المستشفى كعاصفة مشتعلة، للقاء «خطيبها»، الذي لم يخطبها أبداً؛ بل كان على علاقة حب بها أثارت غضب أهلها المتعصبين، فقتلوه، ومضى على مقتله عشر سنوات هي عمر جنونها!
قوة الجنون هذه، أتصور أنها تُفجِّر الكامن من طاقات الجسد البشري، فتوقظ في هشاشة اللحم المهيض عنفواناً يصعب تخيل حدوده، تعادل تأثير السموم بفيض هادر من الإنزيمات المُحطِّمة للسموم، وتقضي على أشرس الميكروبات بإشعال أقصى قدرات الجهاز المناعي، ولا شك أن الولع بكرة القدم لدى لاعبيها ومشاهديها، هو نوع ما من الجنون، وإن كان جنوناً حميداً. أما جنون فانكوفر، فهو جنون مُحيِّر!
المشكلة، أن الجنون الذي يمكن أن ينتصر به البعض على أفتك الأوبئة، يشكل بذاته خطراً يصعب حماية المصابين به من آثاره المدمرة، والأصعب هو حماية المجتمعات من خطر مرضاه على عموم الناس. أما أبشع الجنون، فهو جنون القوة وعبادة العنف لدى هؤلاء الطلقاء في أروقة صناعة الموت، بدءاً من زاعمي أن الطريق إلى الفردوس السماوي هو القتل على الأرض، وصولاً إلى الزاعمين أن امتلاك الرؤوس النووية، وتوازن قوى الردع، طريق مضمونة لإحلال السلام في كوكبنا؛ لأن المسافة بين تعقُّلهم والجنون: شعرة!