حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

الاختناق

نعم إنها عقوبات غير مسبوقة تفرضها الولايات المتحدة على النظام الإيراني. اللائحة تطول من النفط ومشتقاته والصناعات المرتبطة به، إلى المعاملات المالية والاستثمارات والسندات الإيرانية وحرمان طهران من إمكانية الاستفادة من النظام المالي العالمي، مروراً بالشحن والتأمين والمرافئ وقطاعات الطائرات والسفن والسيارات والحديد والصلب والألمنيوم وصولاً إلى قطاع السجاد الإيراني. صحيح أن نظام الملالي تعوّد في السابق على العقوبات الأميركية، وعلى كيفية المواجهة والالتفاف والتفلت أحياناً من بعضها، من خلال شبكات مصالح بنتها طهران تدريجياً خصوصاً في الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا، ومع تركيا، وطبعاً مع عراق نوري المالكي وكل البلدان العشرين التي استثنتها إدارة أوباما من العقوبات، لكنّ الأمر اليوم مختلف جذرياً.
الأمر مختلف لأن العقوبات جاءت كلها في وقت واحد ولم تُفرض على مراحل كما في السابق، وبالتالي لم تترك مجالاً أمام السلطات الإيرانية للالتفاف وتحييد بعض الأنشطة التي يمكن معها الحفاظ على مستوى ولو محدود من التدفقات المالية بالعملات الأجنبية، خصوصاً أن العقوبات على الصادرات النفطية تعني تجفيف المصدر الأساسي لوارداتها، ومع أنه في إيران أمر معروف الوقع السلبي الكبير الذي تركته حزمة العقوبات الأولى على الداخل الإيراني، فإن قادة طهران يدركون أن العقوبات اتسع نطاقها، ولم تعد تستهدف فقط الشركات التي تتعامل مع إيران، بل وكذلك الشركات التي تتعامل من الباطن مع هذه الشركات. وبينما يؤكد وزير الخارجية الأميركي بومبيو أن حملة العقوبات «موجهة إلى حرمان النظام من العائدات التي يستخدمها لنشر الموت والدمار»، رأى الرئيس الأميركي ترمب أن على النظام الإيراني أن يختار «بين تغيير نهجه أو مواجهة الكارثة». قادة طهران يدركون أن تغيير النهج وفق الشروط الأميركية يعني الانكفاء، وأن القبول بالشروط الأميركية كفيل بإرسال الثورة إلى التاريخ، وهنا تكمن حدة المواجهة مع عقوبات ستحرم طهران إمكانية مواصلة إنفاق المليارات على النهج الهادف إلى تمتين الهلال الشيعي من بحر قزوين إلى البحر المتوسط(!)، وبالتالي ليس صحيحاً الاستنتاج من الآن أن النظام الإيراني ذاهب للرضوخ ولا بد أنه جهّز لهذه المواجهة التي تبدو غير متكافئة، وما المظاهرات والتعبئة التي شملت طهران والمدن الإيرانية في ذكرى احتلال السفارة الأميركية في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1979، وخطب قادة الحرس الثوري إلاّ الدليل على حدة وحجم المواجهة المفتوحة، والمضيّ في سياسات التشدد في الداخل والخارج.
ما تريده واشنطن معلَن ومعروف وهو الوصول إلى صفقة يتغير معها سلوك النظام الإيراني، تبدأ بمنع طهران إلى الأبد من إمكانية الحصول على السلاح النووي، ووقف كل أشكال الدعم للميليشيات الطائفية في لبنان والعراق واليمن التي حوّلتها إلى جيوش رديفة لتسهيل مخطط الإمساك بقرار هذه البلدان لاستتباعها وتمكين نظام الملالي من التمدد في الإقليم. وبهذا المعنى فإن العقوبات التي ستُعرّض الكثير من أنشطة حكام إيران للاختناق، تهدد بعزل وإضعاف الأذرع العسكرية للحرس الثوري التي لطالما تبجح قادتها بأن النظام الإيراني هو من يتولى تمويلها وتسليحها!
والأحاديث التي أُريد منها الإيحاء بأن الاستثناءات المؤقتة من العقوبات التي طالت ثمانية بلدان ستؤدي إلى إضعاف العقوبات، فيها الكثير من التمنيات، لأن الأمر لا يغدو أكثر من خطة مؤقتة أرادت منها واشنطن، وفق ما أعلنه وزير خارجيتها، الحفاظ على استقرار أسعار النفط من جهة، وتوفير الدعم السياسي للخطة الأميركية من جهة ثانية، على أن يتم تقليص الواردات تباعاً لأن الاستثناء يستمر 180 يوماً فقط، وبالفعل تبدو خطط مصافي النفط في الهند وكوريا الجنوبية واليابان تتجه إلى اعتماد مصادر بديلة، والأهم أنه خلال هذه الفترة سيتم حجز العائدات المالية للنفط الذي ستوفره طهران لهذه البلدان، وبالتالي لن تستفيد إيران مطلقاً من هذه العوائد المالية. لكن تحت مراقبة شديدة سيكون بوسعها اعتماد نظام المقايضة، للحصول على بعض السلع الأساسية من مواد غذائية وسلع زراعية وأجهزة طبية، إلخ... وهي سلع معفاة من العقوبات، على قاعدة أن الاستهداف هو للنظام الإيراني وقدراته العسكرية لا لمعيشة الشعب الإيراني واحتياجاته.
تعرف طهران صعوبة المواجهة، وهي تبحث عن البدائل، وربما لديها الكثير من الوعود، لكنّ رهاناتها في هذه المواجهة على أوروبا التي تمايزت عن أميركا في موضوع الاتفاق النووي في غير مكانها، فالشركات الكبرى مثل «توتال» و«سيمنز» و«دويتش تليكوم» وسواها غادرت باكراً، وإنشاء بعض الدول الأوروبية ما أُطلق عليه «الشركة ذات الغرض الخاص» في استنساخٍ لما كان يقوم به الاتحاد السوفياتي أيام الحرب الباردة، لحماية نشاطات تجارية محدودة، سيكون مردودها متواضعاً ولن توفر البدائل، وهي لن تعمل إلاّ بعد أشهر. أما ما تردد عن رهان طهران على بكين فهو في غير موضعه، بعدما توصلت في الأيام الماضية، الصين والولايات المتحدة لاتفاقات تحدُّ من الحرب التجارية بينهما، ولا يُعتقد بالتالي أن بكين جاهزة لتعريض هذه الاتفاقات للخطر وهي في أمسّ الحاجة إليها... أما روسيا التي تردد أنها قد تقوم بجزءٍ من إعادة تصدير النفط الإيراني فالأمر مشكوك فيه، لأن روسيا اليوم تحت سيف العقوبات الأميركية والأوروبية، ولا يمكن أن يكون هاجسها المزيد من العقوبات.
إنه زمن العصا المالية الأميركية ولا مجال للتذاكي، لأن الاستهداف واسع جداً، وإذا ما عطفنا القانون الخاص بفرض العقوبات على «حزب الله» الهادف إلى تجفيف مصادره المالية والتسليحية، على رزمة العقوبات على النظام الإيراني، فإن لبنان أمام استهداف آتٍ قد يطال حلفاء الحزب والداعمين السياسيين له، في مجلس الوزراء كما في مجلس النواب، ما يعني أن الطبقة السياسية معنية كثيراً بهذه المواجهة وما ستؤول إليه أكثر من المضيّ في نهج المحاصصة والمغانم الفاسد. إنه من الغباء التسليم بخطط «حزب الله» إعادة تشكيل الحكم والبلد بشروطه، على حساب الدستور وحساب المصالح الوطنية والدور الذي ميّز لبنان ووفّر له، وهو البلد الصغير، الدعم الكبير والمتنوع. إن وضع «حزب الله» يده على الحكومة وتمكينه من إدارة دفة الأمور وفق ما يتم التخطيط له في طهران سيؤدي بالبلد إلى مزيد من العزلة ومزيد من الشلل والانهيار، ما قد يهدد تلقائياً الاستقرار والأمن الاجتماعي للبنانيين وقد يحضر المسرح لفتنة واسعة. ألا يكفي لبنان الأثمان الباهظة التي دفعها في الحرب الأهلية؟