إميل أمين
كاتب مصري
TT

عن حلم العالم الأحادي

هل يحلم الرئيس الأميركي دونالد ترمب فعلاً وقولاً بعالم أحادي تبقى فيه واشنطن روما العصر دون مشارع أو منازع؟
لا يمكن لعجلة التاريخ أن تعود أبداً إلى الوراء، لأن ذلك ضد طبيعة التاريخ نفسه، فهو ماض قدماً إلى الأمام، وعليه يبقى التساؤل دائماً وأبداً... ماذا عن الغد؟
منطلق التساؤل هو النوايا التي أشار إليها الرئيس ترمب، والمتعلقة بالانسحاب من معاهدة «ستارت 3» الخاصة بالحد من الصواريخ النووية المتوسطة المدى والقصيرة.
الذين قدر لهم متابعة الرئيس ترمب في رحلته لمدينة إلكون بصحراء نيفادا قبل أسبوعين تقريباً، استمعوا إلى الرجل وهو يعلن نيته الانسحاب من تلك المعاهدة، بل ويستنكر بقاءها في زمن باراك أوباما، وكيف لم يسارع إلى إلغائها.
يمكن لأي محلل سياسي للشؤون الأميركية أن يرصد شيئاً من الحقيقة في حديث الرئيس ترمب، فقد عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه للأمة الروسية في الأول من مارس (آذار) الماضي، أنواعاً وأشكالاً من الصواريخ النووية طويلة وقصيرة المدى، المزعجة للغاية للعم سام، الأمر الذي استدعى إعادة بث الروح في برنامج حرب النجوم الأميركي الذي يعود إلى ثمانينات القرن الماضي.
هل الروس بدورهم واثقون بالمصداقية الأميركية بشأن الاتفاقية ذاتها؟ بالقطع لا، فقد اشتبهت روسيا مرات كثيرة مؤخراً في أن الأميركيين يقومون بتصنيع صواريخ من هذا النوع، مع رفضهم للاتهامات الأميركية بشكل قاطع تماماً.
بل إنهم أكثر من ذلك استشهدوا على مستوى الخبراء، بقيام الولايات المتحدة بخرق الاتفاقية، وتجاوز واشنطن قواعدها وأحكامها، وتصنيعها ونشرها صواريخ اعتراضية مضادة لا يمكن أن تكون فقط صواريخ اعتراضية، بل وصواريخ قصيرة المدى، ومتوسطة المدى، وكذلك باستخدامها طائرات من دون طيار، التي يمكن أن تشكل أكثر من صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى.
جزئية غاية في الأهمية في المواجهة النووية الدائرة اليوم بين الولايات المتحدة وبقية الأطراف الدولية الكبرى تتصل بالصين، ذلك أن الرئيس ترمب، الذي وضع الصين منذ حملته الانتخابية الرئاسية كخصم رقم واحد، جمع في اتهاماته بين روسيا والصين، والأخيرة لم تكن طرفاً في المعاهدة وقت توقيعها.
الثابت أن كثيراً من الأقلام الأميركية تذهب إلى أن الصين في واقع الأمر، وأكثر من روسيا، هي التي دفعت ترمب لإعلان نواياه الأخيرة، فبكين التي تمكنت جيداً من الردع النقدي في مواجهة واشنطن، تمضي كما الخطوط الكلاسيكية لنشوء وارتقاء الأقطاب العظمى إلى مرحلة «الردع النووي»، بمعنى أنه انطلاقاً من كونها غير موقعة على الاتفاقية، لذا فإنها مطلقة اليد تماماً في إنتاج وصناعة الصواريخ ذات المديين المتوسط والقصير، ما يمنحها تفوقاً ساحقاً على واشنطن وموسكو، الأمر الذي دعا البنتاغون لاستشعار الخطر الداهم المقبل، والخروج عن طوره.
الصينيون من جهتهم يقولون بشكل رسمي على لسان هوا تشون بينغ، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، إن الزج باسم الصين في الإشكالية النووية أمر خاطئ تماماً، غير أن ترمب لديه قناعة قال بشأنها: «لدينا أموال أكثر من أي أحد آخر، وعليه إذا لم يهرع إلينا الروس والصينيون، ويقولون: دعونا نكون أكثر حكمة ولا ندع أياً منا يطور هذه الأسلحة»، فإننا سوف نطور تلك النوعية من الصواريخ.
الموضوعية تقتضي النظر إلى كل جوانب الإشكالية، ذلك أنه إن كان الروس قد طوروا صاروخاً جهنمياً هو «سارامات» والأميركيون قد ردوا عليه بإعادة إحياء برنامج حرب الكواكب أو النجوم، إلا أن إشكالية الصواريخ الروسية قصيرة ومتوسطة المدى أيضاً باتت تشكل هلعاً حقيقياً للأميركيين... كيف ذلك؟
من دون الدخول في تفصيلات عميقة، يمكن الإشارة إلى أن الروس لديهم قاعدة لبنية عسكرية تقنية نشيطة، ولديهم تصميم لصاروخ متوسط المدى يدعى «كوريير»، هذه النوعية حال تحميلها على متن الأسطول الشمالي الروسي في مواقعه بجزر القطب الشمالي شبه المهجورة، يجعل زمن طيرانه من أرخبيل نوفوسيبيرسك إلى أراضي الولايات المتحدة دقائق معدودات، ما يعني أن هناك مسدساً موجهاً إلى رأس أميركا، وهو ما لن يقبل به الكونغرس ولا إدارة ترمب في الحال أو الاستقبال.
هل أضحى العالم على شفا عتبات انفلات نووي يقضي على البشرية وكذا الزرع والضرع مرة واحدة؟
إليكم التالي خلال فعاليات نادي «فالداي» الأخيرة في سوتشي، أشار بوتين إلى أن عقيدة روسيا ومفهومها بشأن استخدام الأسلحة النووية لا يتضمنان توجيه ضربة نووية وقائية، مضيفاً أن مثل هذه الأنواع من الأسلحة لا يمكن استخدامها إلا في حالة توجيه ضربة انتقامية ضد بلاده، لكنه أضاف أن على المعتدي أن يعرف أن الانتقام أمر لا مفر منه، وأنه سيتم القضاء عليه.
بوتين صاحب المسحة الدوغمائية، ووريث الأرثوذكسية الروسية بشقيها الديني والسياسي، وضع العالم كافة، والأميركيين خصوصاً، أمام مفترق طريق لا يخلو من دلالات يفهمها الراسخون في العلم، إذ أشار إلى أنه إن حدثت تلك الضربة «سنذهب نحن ضحايا العدوان شهداء إلى الجنة، أما هم ببساطة فلن يكون لديهم الوقت للندم والتوبة، ولذا مأواهم الجحيم».
هل هناك من قرأ على أسماع بوتين نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته مجلة «MILITARY TIMES» الأميركية عن رؤية الجنود الأميركيين لروسيا والصين؟
باختصار ذهب 46 في المائة منهم إلى أنهم يشعرون أن هناك حرباً واسعة النطاق مع موسكو وبكين في العام 2019، لا سيما وأن أميركا التي تعاني من أزمات مجتمعية داخلية، وتبغي الحفاظ على الهيمنة العالمية، مدفوعة من قبل غالبية المؤسسة الليبرالية الأميركية لنشر نموذجها الطهراني كما تتصوره، وعليه فلا محيص لديها عن رفع صوت القيادة العسكرية الأميركية حول العالم، وتالياً عسكرة العالم، حتى وإن حدث ما لا يبغونه، أي الانفلات النووي... أي عالم مجنون هذا؟