علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

أوهام حول كتاب «القرآن والقتال»

قلتُ في أول حديث عن كتاب أحمد نار «القتال في الإسلام»، إن الكتاب صدر في عام 1952. وأرى أنه قد صدر قبل حصول ثورة 23 يوليو (تموز)، والبيِّنة في ذلك أن مصطفى السندي في مقدمته للكتاب لم يسمِّ حسن البنا ولا الإخوان المسلمين ولا مصر ولا الأحزاب السياسية والسياسيين فيها كي لا يمنع الكتاب من الصدور. ذلك لأن جماعة الإخوان المسلمين كانت جماعة محظورة قبل حصول تلك الثورة. فلو كان الكتاب صدر بعد حصولها لصرَّح بأسماء أولئك، لأن ضباط الثورة رفعوا الحظر عنها، وأزيد من ذلك أنهم كانوا متحالفين مع الجماعة في السنة الأولى من عمر ثورتهم.
مصطفى السندي في تلك المقدمة كان قد ذكر أن الكتاب قد عُرِض على المرشد قبل ظهوره مطبوعاً، وهذه المعلومة تشي بأنه عُرِض عليه ليقرّ قراءته وتدريسه للمنتسبين إلى التنظيم السري المسلح أو النظام الخاص في جماعة الإخوان المسلمين، وإلى عموم المنتسبين إلى الجماعة.
الكتاب يحوي معلومات تفصيلية عن فنِّ القتال وأنواعه، مع محاولة التأصيل الديني والتأصيل التاريخي له في العهد الأول من تاريخ الإسلام. وهذا الكتاب المجهول يستأهل من الباحثين العرب والمسلمين والأجانب قراءة مفصّلة فيه، لأنه يعبر عن وجهة نظر الإخوان المسلمين في فترة مبكرة من تاريخهم التي لا نعثر عليها بمثل الوضوح والشمولية التي توفَّرت في ذلك الكتاب، في كتاب آخر من كتبهم. وهذه هي الأهمية الأولى له.
أما الأهمية الثانية له، فهي أهمية تاريخية؛ فهو ثاني كتاب في تاريخ مؤلفات المسلمين أُلِّف في موضوع الجهاد. والكتاب الأول كان «رسالة الجهاد» لمرشدهم حسن البنا. وقد قرأتُ لبعضهم أن هذه الرسالة أُلفت في عام 1948. وهذه المعلومة غير صحيحة، فهي أُلفت قبل ذلك التاريخ، فما كتبه حسن البنا في ذلك التاريخ هو سلسلة مقالات عنوانها «اتجاهات النهضة في العالم الإسلامي»، بدأ نشرها في مجلته، مجلة «الشهاب»، ابتداءً من عددها الثاني الصادر في 14ديسمبر (كانون الأول) 1948، التي أخرجها الإخوان المسلمون في كتاب يحمل اسم «السلام في الإسلام» في مطلع سبعينات القرن الماضي. ولا ندري هل هذه السلسة سبقت تأليف أحمد نار مادة كتابه «القتال في الإسلام»، أم أن تأليفه سبق تأليف تلك السلسة. والمتمعِّن في أسلوب وطريقة كتابة تلك السلسة يشك في أن حسن هو كاتبها الأصلي.
أما الأهمية الثالثة للكتاب هو أنه يُمدِّنا بمعلومة هي أن النظام الخاص كان مهتماً بالناحية النظرية بفنِّ القتال بالمعنى الحديث والمعاصر. وهذه المعلومة تُضاف إلى معلومة أخرى، وهي أن أحمد عادل كمال عضو النظام الخاص والمتهم بالمشاركة في عمليات اغتيال، وصاحب كتاب «النقط فوق الحروف: الإخوان المسلمون والنظام الخاص» مذ كان طالباً في كلية التجارة، كان يترجم من اللغة الإنجليزية كتباً لأعضاء النظام الخاص عن العسكرية الغربية.
أما الأهمية الرابعة للكتاب، فإنه قد تضمن نصاً مكتوباً لرئيس النظام الخاص مصطفى السندي، الذي لا نجد له سوى مرويتين أو ثلاث لمحادثات شفهية في مذكرات الإخوان المسلمين عن النظام الخاص.
تقول حياة اليعقوبي في صدد المقارنة بين رسالة سيد قطب في الجهاد ورسالتي البنا والمودودي في الجهاد: «لكن سيد قطب اختلفت رهاناته وخرجت عن الجانب الدعوي. كان رهاناً يحتاج لرؤية أكثر إقناعاً. لكن سيد قطب اختلفت رهاناته وخرجت عن مجرد رفض الجهاد في المطلق أو اتخاذه أداة لتشويه الإسلام، إلى صورة آخر يرى فيه مُجاهَدة من أجل التحرر الوطني وبناء الدولة القومية المستقلة، ولجوء نظام عبد الناصر لتوظيف هذا الخطاب ضد خطاب الإخوان المسلمين، فكان عليه أن يجيب عن تلك الفترات التي تخلَّى فيها المسلمون عن القتال ليؤكد أنها الطارئ والاستثناء وليست الأصل».
هذا الكلام إضافة إلى الربكة والاضطراب في الصياغة كلام غير مفهوم، ونسأل هنا: أين دور أنس الطريقي الذي تولّى تقديم ملف «الجهاد، الشهادة، الشهيد» وتنسيق أبحاثه؟!
استلفَتَ نظري في أول بحث من أبحاث هذا الملف للباحث السوري نبيل علي صالح، الذي كان عنوانه «دور فكرة الجهاد وتأصيل ثقافة التطرف لدى أتباع التيار السياسي الإسلامي»، قوله: «القضية الثانية: ربط الجهاد بالكفر، وتنامي هذا الاعتقاد خلال القرن الأخير، مما شكَّل ضربة قاسية لفقه العيش وفقه الدين معاً. واضطر ذلك عدداً من كبار الفقهاء، أبرزهم محمود شلتوت شيخ الأزهر، إلى مهاجمة ذلك والرد عليه في كتابه (القرآن والقتال) 1949، حيث نبه إلى أن (القتال لا يكون إلا لدفع العدو ورد المعتدين) كما جرى التوضيح، بل نبه أيضاً إلى خطب التكفير وبالتالي الجهاد على الداخل، المسلم بسبب عودة مفهوم الولاء والبراء، الذي لا يتناول غير المسلمين فقط، بل يتناول مسلمين آخرين أيضاً، يختلف معهم المتشددون في الرأي (والاعتقاد)، وقد حصل ما توقعه شلتوت، عندما انتشرت ظواهر تكفير الحكام والأنظمة والمجتمعات، واستحلال ممارسته ضدها. وهكذا فقد تطوَّرت المسألة من دعوى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومكافحة البدع، إلى ربط العنف بإقامة الدولة الإسلامية التي تطبق (الشريعة)... وبذلك تطرق الخلل والاختلال لدى فئة من المتشددين إلى مفهوم الدين ذاته».
هذا القول الذي نقلتُ لكم صدرَه، كان إحالة أو اقتباساً بالمعنى من مقال كتبه رضوان السيد في صحيفة «الاتحاد» الظبيانية، تحت عنوان «تجديد الخطاب الديني»، وعدد الأسطر المقتبسة من مقال رضوان، كانت تزيد على ثمانية عشر سطراً.
هذا الاقتباس لا تنطبق عليه ضوابط الاقتباس بالمعنى، لأنه كان نقلاً حرفياً، مع وضع روابط بين الجمل، وزيادة فيها، ووضع معظمها بين هلالَيْن.
هذا الاقتباس جاء في سياق أن «المشكلة التي حدثت عبر تاريخ ترشيح وتأصيل فكرة الجهاد عملياً في تاريخ السياسي العربي والإسلامي حتى اليوم، هي ارتباط قضية الجهاد بقضيتين تم التلاعب بهما». القضية الأولى - كما رآها الباحث - اعتبار الجهاد هجومياً وليس دفاعياً.
لما رجعتُ إلى المقال المقتبس وجدت أن رضوان السيد في الفقرة الثانية منه قال: «وفي زمن الاستعمار، عندما كانت الدول القائمة تعجز، تظهر حركات جهادية تتصدى لدفع العدو عن الديار وتحريرها منه، ومنذ ذلك الحين لاحظ السيد أحمد خان بارتباط الجهاد بالتكفير».
قول أستاذنا القدير في مجال الإسلاميات، قول غير دقيق. فارتباط الجهاد بالكفر - وليس بالتكفير - قول فقهي قديم وشائع عند الفقهاء القدامى. ولم تتم إعادة النظر به، والقول إن الجهاد في الإسلام جهاد دفاعي وليس هجومياً إلا في العصر الحديث، وتحديداً منذ القرن التاسع عشر الميلادي. وكل ما قاله عن محمود شلتوت وعن كتابه هو غير دقيق أيضاً.
لا أحد يجادل في عمق ومتانة معرفة أستاذنا بالفكر الإسلامي الحديث، إصلاحيَّه وراديكاليَّه، وبالإسلاميات الكلاسيكية، لكنه ربما اعتمد على ذاكرته ولم يتثبت من المعلومات التي قالها عن محمود شلتوت وكتابه، بالرجوع مرة أخرى إلى الكتاب.
كما أنه من الواضح من صياغة المقال أنه كُتِب على عجل. كتاب محمود شلتوت «القرآن والقتال»، كما يخبرنا عبد المجيد عبد السلام المحتسب في بحث له عنوانه «منهج الإمام محمود شلتوت في تفسير القرآن الكريم»، صدر في عام 1948 وليس في عام 1949 عن مطبعة النصر في القاهرة.
أما الطبعة الثانية منه، فلقد صدرت في شهر يوليو سنة 1951، ولقد أعاد اللبناني عز الدين بليق صاحب دار «الفتح للطباعة والنشر» طباعته عام 1983 مع كتابة مقدمة له، وظن أن إعادة نشره لهذه الطبعة هي الطبعة الثانية للكتاب.
إنني لم أستطع الحصول على الطبعة الأولى من الكتاب، لذا فأنا لا أدري إن كانت المعلومات المتوفرة عن الكتاب في الطبعة الثانية موجودة في الطبعة الأولى أم هي غير موجودة فيه.
في الطبعة الثانية من الكتاب يقول محمود شلتوت: «وبعدُ، فهذا بحث عن القتال في نظر القرآن، ألقيته في محطة الإذاعة اللاسلكية المصرية من سنين في سلسلة من المحاضرات، وأردت نشره على الناس مرة أخرى في رسالة مطبوعة ليتمكنوا من قراءته فينتفع به من يحتاج إليه، ويبدي رأيه فيه من يرى ذلك».
ولا نعلم إن كان ألقاه قبل صدور الطبعة الأولى أم بعدها. وعن سبب تأليفه له، يقول: «ذلك لأن للقتال في هذا الوقت شأناً واقعياً ملأ الدنيا وشغل الناس، وله في سائر الأوقات شأن نظري يلوكه كثير من أرباب الأديان في الطعن على الإسلام».
ويعني بأرباب الأديان هنا المسيحيين واليهود الغربيين. والكتاب هو تطوير لكتاب كان قد ألَّفه في عام 1933 عنوانه «الدعوة المحمدية والقتال في الإسلام»، صادر عن المكتبة السلفية لصاحبها محيي الدين الخطيب.
وقد كتب على الغلاف «محاضرتان ألقاهما في نادي جمعية الشاب المسلمين بالقاهرة فضيلة الأستاذ محمود شلتوت، من علماء الأزهر».