داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

العصر «السيبراني» يجتاح الأثير

في عام 1982 ظهر على غلاف مجلة «تايم» الأميركية عنوان مثير هو «إنسان عام 1982» تحت صورة كومبيوتر، وكان ذلك إيذاناً ببزوغ مجتمع يخلف المجتمعين الصناعي والزراعي.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1996 عُقد مؤتمر عالمي في مكسيكو سيتي تحت عنوان «البشرية الكوكبية في زمن السيبر»، وحضرته قيادات فكرية دولية لبحث تطوير الاتصالات وتكنولوجيا الكومبيوتر والإنترنت. وكان هذا هو خط البداية لما نراه اليوم من ابتكارات في عالم الاتصالات تجاوزت الخيال.
دخلت في السنوات الأخيرة مصطلحات ومسميات ورموز لها صلة بالأنظمة الإلكترونية والحاسوب والفضاء الافتراضي والقرى الذكية، وكل ما له علاقة بعلم الاتصالات الذي تفرع إلى علوم لا حصر لها. ولأول مرة بدأنا نسمع في المؤتمرات الدولية، وآخرها اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة عن تطبيقات مذهلة وخطيرة في «العالم السيبراني».
لم يعد هذا العالم الافتراضي خيالياً، بل أصبح واقعياً وملموساً ومستخدماً على أوسع نطاق. بل إنه تسلل، بقصد أو من دونه، إلى تفاصيل حياتنا اليومية الخاصة والعامة. وما عاد في الإمكان إخفاء الرؤوس في الرمال لتفادي المجهول القادم إلينا على أجنحة السحاب في هذا الفضاء اللانهائي واللامحدود.
حتى وقت قريب لم نكن نعرف معاني مصطلحات مستحدثة، مثل: المدرسة الإلكترونية، والفضاء السيبراني، والشبكة العنكبوتية، والاحتيال السيبراني، والجراثيم الحاسوبية، وقانون الفضاء الإلكتروني، والأمن الرقمي، والهجوم السايبري... إلخ. وكل من هذه المسميات يتفرع مثل الأشجار. وسمعنا عن الأموال الإلكترونية، لكن حتى الآن يخشى كثير من الناس البسطاء التعامل بـ«النقود الرقمية» أو «البيتكوين»، ويحتاج الأمر إلى مساحة زمنية لبناء الثقة لدى مستخدميها. ووصلت الأمور إلى مقهى الإنترنت، ليس بمعناه السابق المعروف، وإنما مقهى تخيلي افتراضي أنت صاحبه وتجلس فيه وأمامك فنجان قهوة مع عشرات من أصدقائك ومعارفك وزملائك لتبادل الآراء، والصور، والفيديوهات، والنكات، والنصائح الطبية، والأشعار والأغاني، وهلا بالخميس، وجمعة مباركة، وكل عام وأنتم بخير، وصباح الخير إن كان صباحاً، ومساء الخير إن كان مساءً. ووصلنا أيضاً إلى التسقيط السياسي الإلكتروني الذي قد يصل إلى الجرائم الإلكترونية. ولم ننسَ بعد كيف تبادل الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب ومنافسته في الانتخابات هيلاري كلينتون الاتهامات بالتجسس الإلكتروني العابر للحدود الروسية، وهو أمر يذكرنا بأسلوب التجسس التقليدي في القرن الماضي عن طريق التنصت على الهواتف؛ ما أدى إلى «فضيحة ووترغيت» التي أطاحت الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون.
الخطورة الأكبر في الاستخدام «الوحشي» للفضاء السيبراني، حيث يتسلل قراصنة الإنترنت من الإرهابيين والمبتزين واللصوص إلى اختراق الحواجز والخزائن ونظم الأمن والدفاع والتسليح والأرقام السرية لكل ما نظن أنه ما زال سرياً. وهكذا شيئاً فشيئاً أصبح الحديث عن «الأثير التخيلي» أو «السيبراني» سياسة، ربما نحتاج إلى منظمة عالمية لفك الاشتباكات الافتراضية التي قد تتحول إلى معارك واقعية. هل نصل إلى الحين الذي تتحكم في الأوكسجين الفضائي دولة واحدة أو دول محدودة مثل منظمة «الأوبك»، ويباع الأوكسجين وغيره من الغازات بعبوات بدلاً من البراميل؟ أو «تـُفتي» محكمة العدل الدولية في لاهاي بأن ما يسري على سيادة الدول في أجوائها الوطنية ضمن حدودها يسري على أثيرها السيبراني لحماية أمنها الوطني من المخاطر الإلكترونية والمعلوماتية والتقنية والفضائية؟ هل يمكن أن يشمل ذلك طائرات الدرون للتصوير والتجسس وتنفيذ عمليات اغتيالات أو تفجيرات كما يحدث في سماء غزة المحاصرة؟ ألا يعتبر ذلك اعتداءً «وحشياً» على الأثير الوطني لكل بلد يستدعي حماية أمنه ضد أي اختراق لحرمة الأجواء وسرية المعلومات والأماكن وأي تشويش على الاتصالات والمواقع الإلكترونية ونظم المعلومات؟ إنه عالم جديد من الحروب غير المنظورة التي تشمل التجسس الفضائي وإصابة بعض مركبات الفضاء بالعمى السيبراني الذي يسبب خسائر فادحة على الأرض.
قد تبدو «السيبرانية» علماً جديداً على الأسماع، لكنه معروف منذ قرون باسم «السيبرانطيقا»، وهي كلمة إغريقية تعني الموجه أو الحاكم أو القبطان، لكنها ظهرت في أربعينات القرن الماضي تحت مسمى «السيبرانية»، وتشمل آليات التواصل وعلم القيادة والتحكم الآلي «الكونترول» في الأحياء والآلات.
سيأتي يوم قريب تصبح فيه الوزارات القائمة على التعامل السيبراني من الوزارات السيادية شأنها شأن وزارات الداخلية والخارجية والدفاع والمالية والنفط. وهذه الوزارات هي الأولى فعلاً بالتعامل «السيبرانطيقي»، وبخاصة إذا تولى أحدها في العراق – مثلاً – الدكتور إبراهيم الجعفري الذي لا يُفرق بين العصر الأكدي والعصر العباسي كما تحدث في الأمم المتحدة! وكانت مصر سبّاقة في عام 2014 إلى إقامة أول مجلس عربي للأمن السيبراني ضم ممثلين عن رئاسة الجمهورية ووزارات الاتصالات، والمالية، والتخطيط، والدفاع، والخارجية، والداخلية، والنفط، والكهرباء، والصحة، والموارد المائية، والتموين، وجهاز المخابرات العامة، والبنك المركزي. وقرأنا في الصحف أن المملكة العربية السعودية أنشأت فعلاً اتحاداً للأمن السيبراني والبرمجة، ولجأت الإمارات العربية المتحدة منذ عامين إلى إطلاق أول منصة لتبادل المعلومات المتعلقة بالتهديدات السيبرانية للبنوك، وهذه أمور مبشرة تدعو جامعة الدول العربية إلى إقامة منظمة عربية متخصصة للتعامل مع هذا الخطر، الذي لم يعد كامناً، بالتعاون مع منظمات معنية أجنبية لئلا يسبقنا العصر، ويكفي ما نحن فيه من ارتدادات.