سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

مفكرة البحرين: الكيلو والمليار

وقف الشاب أمام دكان توابل في بنغازي عام 1968 وبدأ يشرح له ما يريد أن يبيعه. لكن البائع قاطعه قائلاً: قعمز! ولم يفهم معناها، فاستمر في الكلام، إلى أن صرخ البائع: اجلس!
جلس عند باب الدكان يقول للرجل إنه جاء من لبنان ليبيع الـ«إنسيكلوبيديا بريتانيكا»: 15 جزءاً ثمنها 1500 ليرة مقسطة على 15 شهراً. بالإنجليزية. وسأله الرجل: ما إفادتي وأنا لا أعرف الإنجليزية؟ هل تستطيع أن تهزم بائعاً لبنانياً؟ قال له: يا عم بياع التوابل، الموسوعة وضعت للعائلة... الأب لا يقرأ، أبناؤه يقرأون. إنها تحمل الجواب عن كل شيء في الحياة. هل تريد أن تعرف مثلاً أين تنبت أنواع التوابل؟
بدأ البائع الليبي يتراجع قليلاً أمام البائع اللبناني. وأخيراً سأله: وكم ثمن الكيلو؟ قال له: هذه لا تباع بالكيلو، بل بالجزء. رد بائع التوابل بكل بساطة: أنا لا أتعاطى إلا بالكيلو، وإلا فلن أشتري.
عاد اللبناني إلى الفندق ليتصل بوكيل الموسوعة في بيروت. وعندما سمع هذا العرض جنّ جنونه: الموسوعة البريطانية بالكيلو، هل تريد أن تخرب بيوتنا؟ انسَ الموضوع! كيف يمكن لصاحبنا أن ينسى الموضوع؟ إنه يجيء إلى بنغازي كل صيف يبيع الموسوعة من أجل أن يتمكن في الشتاء من دفع قسطه في الجامعة الأميركية.
في اليوم التالي عاد إلى بائع التوابل: العناد الليبي المشهور في مواجهة الشطارة اللبنانية الشهيرة. قال له: فلنسمِّ الجزء كيلو في حسابك، وجزءاً في حسابنا، و15 كيلو في حساب هذه الروائح التي تشق القلب. اتفقا. فرح اللبناني بحصته من العقد، وفرح الليبي بحصة أبنائه من العلم. أكرم مكناس عندما تخرج كان قراره متخذاً في بنغازي: ما دامت له القدرة على بيع الموسوعة بالكيلو، فإن موهبته الأولى صناعة الإعلان. اختار البحرين وطناً منذ أربعين عاماً، وأسس مع شركاء له شركة «بروموسفن».
كل مرة أجيء إلى البحرين أجد أن أكرم بدأ مشروعاً جديداً. ومنذ أن تزوجت ابنة شقيقته أمل علم الدين بجورج كلوني، أصبح لقبه لدى الجميع «الخال»، باللهجة اللبنانية. وكنت أعرف أن الخال يملك سلسلة مطاعم في لبنان والبحرين، ويجمع أغلى السيارات القديمة، وإنه مقاول كبير في بناء بيوت ذوي الدخل المحدود. كل هذه مهن لا علاقة لنا بها.
ماذا يعمل أكرم مكناس الآن؟ يكتب مقالاً سياسياً أسبوعياً في «الأيام»! ويؤلف الكتب. فمن نافسك في أعمالك؟ إنه عالم صغير كما تعرفون. وقبل سنوات التقى أكرم أستاذته من الجامعة الليبية. وعندما عرّفها بنفسه، قالت ضاحكة: هل أنت الرجل نفسه الذي باع الموسوعة إلى أبي؟
سألت أكرم عن أوضاع «بروموسفن» التي هو الآن رئيسها، لكي أطمئن على وضعه في الإعلان: «الحمد لله. موازنتنا هذا العام 1.7 مليار. طبعاً لا بالليرة اللبنانية ولا بالجنيه الليبي».