مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

سهرة مع «ابن عروس»

الثقافة الشعبية، وعلى رأسها الشعر والغناء، هي ضمير أي أمة، وطالما فتنت أنا بهذه الثقافة، وبحثت وتقصيت عنها، وحاولت تلقيها من مبدعيها، وغالباً هم من عامة الناس، وقد يكونون من أفقرهم وأجهلهم، ولكن هذا لن يضيرهم بشيء.
وقد وضحت هذه الظاهرة في بعض البلاد العربية التي تقام فيها الموالد للأولياء، وكذلك في مواسم الأعياد، فينطلقون من دون ترتيب للتعبير عن مكنوناتهم، فتجد فيهم الدرويش والصحيح؛ بل وقد ترى جوقة كاملة من العميان، كلهم يرسلون أصواتهم الذبيحة المفعمة بالألم من دون لحن ثابت، وقد تجد الأب مع الأم مع أبنائهما، كل يرفع صوته ويغني على ليلاه، بطبقات متفاوتة ومتناقضة.
البعض يمدح ولا يغني، والبعض يرتل ويدعو، البعض لا ينطق وإنما يتجاوب جسده النحيف مع كل صوت وكل لحن، وتتداخل في أذنك وأنت تستمع إلى هذه «الفوضى الخلاقة»، الأشعار الفصيحة، مع الأشعار الشعبية، مع بعض الألفاظ السوقية، مع بعض التبرع لله، إلى جانب كثير من «الكحيح والفحيح» الذي يخرج من الصدور المريضة الدامية.
وهذه التوطئة أو المقدمة كتبتها كمدخل للحديث عن جلسة أو سهرة شعبية قضيتها في القاهرة مع مجموعة من الأصدقاء، وكان عمودها الفقري ثلاثة من المغنين برباباتهم، وأعجبتني بعض أبيات الشعر التي يغنونها، ولما سألت عنها قيل لي إنها لـ«ابن عروس».
وبعد البحث، عرفت لاحقاً أن ذلك الشخص كان من عتاة المجرمين، عاث في أعالي الصعيد نهباً وتسلطاً على البلاد والعباد، وذلك قبل قرنين من الزمان.
وبلغ من سطوته أن أصبح كأنه حاكم لا يعصى له أمر، ففرض الإتاوات على الأغنياء بواسطة عصابته ورجاله الأشداء، وجمع بذلك ثروة هائلة.
ويقال عنه بعد أن بلغ الستين من عمره، إن نفسه قد عافت المعاصي، فتاب إلى الله، ووزع كل أمواله على الفقراء، وعاش هائماً في البلاد، يطلق أشعاره التي تشبه المواعظ على الناس، ومنها:
ما ينام الليل مغبون - ولا يقرب النار دافي
ولا يطعمك شهد مكنون - إلا الصديق الوافي
***
دنياك ما فيها مغنم - وكلها ما تسواشي
شبه اللي بات يحلم - طلع النهار ملقاشي
***
لا تسلك الطريق وحدك – دور المحبة غوارق
وامشي مع اللي يودك - واترك هوى اللي يفارق
***
الحر يصبر على الضيق - ولا يفرح لعادي
لو ينشف الفم والريق - ينام على الحال هادي
***
رحم الله «ابن عروس»، فقد قضيت مع أشعاره سهرة ممتعة، امتدت إلى بواكير الصباح، ونمت بعدها مفتوناً غير مغبون.