نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

كيفية سد الفجوات في الاقتصاد الأميركي

ما القائم المشترك بين الإنترنت، والطاقة النووية، ونظام تحديد المواقع، والحوسبة السحابية، والتعرف على الأصوات، والذكاء الصناعي؟
لقد جرى تطويرها كلها بمساعدة مباشرة من الحكومة الأميركية. وكما أثبتت عالمة الاقتصاد ماريانا مازوكاتو وغيرها، فإن الجهود البحثية التي تقودها الحكومة الأميركية كانت مهمة للغاية وحيوية في تحقيق عدد غير قليل من التطورات والتقدم الرئيسي الذي أسفر في وقت لاحق عن تحقيق مكاسب كبيرة لمختلف الصناعات الأميركية.
ولقد خرج كثير من هذه التطورات من رحم وكالة واحدة - وهي وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة (داربا). وفي مقالة نُشرت حديثاً، أوضح خبراء الاقتصاد بيير أزولاي، وإيريكا فوش، وأنا غولدشتاين، ومايكل كيرني النموذج التنظيمي الذي يجعل من (داربا) - وشقيقاتها مثل وكالة (أربا - إي)، التي تتركز أعمالها على تكنولوجيا الطاقة - وكالة بحثية فريدة من نوعها. وتختار «داربا» في بادئ الأمر مجال التكنولوجيا الذي لم يحقق القطاع الخاص فيه كثيراً من التقدم حتى الآن - على سبيل المثال، حاسوب العقل الوسيط، أو الغواصات المسيرة - ثم تعثر الوكالة على الباحثين العاملين على الأفكار التي قد تملأ الفراغ في ذلك. ومن خلال منح المجال الواسع لمديري المشاريع الأقوياء، تتجنب وكالة «داربا» كثيراً من العقبات البيروقراطية والروتينية التي يمكنها عرقلة المشروع الذي تشرف عليه الحكومة.
ولكن على الرغم من هذا السجل الكبير في مجال التكنولوجيا، ليست لدى الحكومة الأميركية وكالة مناظرة تعمل على مواجهة التحديات الاقتصادية. وكما تمكنت وكالة «داربا» من استغلال كثير من المجالات التكنولوجية التي يحتاج القطاع الخاص إلى المعاونة الحكومية فيها، فإن مكتب السياسات الصناعية في الولايات المتحدة - أي وكالة «داربا» للتطوير الاقتصادي - قد يركز أعماله على ملء الفجوات الاقتصادية التي تعيق المسيرة الاقتصادية من استغلال كل إمكاناتها الكاملة.
وقد صاغ خبراء الاقتصاد مثل داني رودريك، وناثان لين، وإرنست ليو، وكُتاب مثل جو ستودويل، كثيراً من النظريات حول كيف يمكن للسياسة الصناعية مساعدة الدول الفقيرة في التطور. ولكن السياسة الصناعية في الدول الغنية، التي يوجد فيها بالفعل كثير من الشركات عالية الكفاءة والصناعات المتطورة، وحيث يوجد كثير من المناطق المزدهرة اقتصادياً بالفعل، ينبغي أن تكون مختلفة للغاية. وبدلاً من التركيز على إعادة تشكيل الاقتصاد بأسره، سوف يركز مكتب السياسات الصناعية في الولايات المتحدة على المشاريع الرخيصة نسبياً التي تهدف إلى سد الثغرات الاقتصادية.
وإحدى الثغرات الكبيرة تتعلق بالمناطق المتدهورة. وفي جميع أنحاء الولايات المتحدة، لا سيما في الغرب الأوسط العلوي، هناك مدن وبلدات تعرضت لأضرار كبيرة بسبب التراجع الصناعي في حزام الصدأ الكبير لعقد الثمانينات من القرن الماضي، والصدمة الصينية بدءاً من عام 2000، والركود الكبير في عام 2008، أو مزيج من الثلاثة معاً. وكما قال الكاتبان جيمس وديبورا فالوز، فإن بعضاً من هذه الأماكن تقوم بعمل جيد في إخراج نفسها من حالة الركود، وتبدو الاستراتيجيات التي يستخدمونها متشابهة، وهي تدور حول تنمية الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والاستفادة من الجامعات القريبة، وتنمية الصناعات المحلية، وإعادة الحياة لمراكز المدن هناك.
ولكن لأن هذه الجهود تعتمد على المبادرات المحلية، فإنها جهود مبعثرة وغير منسقة. ويمكن للمدن التي لا تزال تعاني من المصاعب أن تستغل المساعدة في تحديد وتنفيذ نماذج النظراء الأكثر نجاحاً. ويمكن لمكتب السياسات الصناعية في الولايات المتحدة أن يجمع، بشكل منهجي، ويحلل المعلومات حول الاستراتيجيات المحلية الناجحة، ويوحدها كلها ضمن خطة موحدة يسهل توزيعها على رجال الأعمال والقادة السياسيين والأكاديميين في المدن الأقل إحرازاً للنجاح. ويمكن أن يساعد في تحديد وربط القادة المحليين من هذه القطاعات، وجمعهم في غرفة واحدة معاً، وتشجيعهم على صياغة الخطط المعنية بتغطية الاحتياجات المطلوبة في مدنهم وبلداتهم، وتعزيز نقاط القوة لديهم، وتفعيل مواردهم المحلية الخاصة. ويمكن للمكتب توفير التمويل الأولي لإنشاء مراكز البحث الأكاديمية مثل معهد «كارنيغي ميلون للروبوتات» الذي ساعد مدينة بيتسبرغ في حيازة الريادة في مجال الروبوتات.
ويمكن لمكتب السياسات الصناعية في الولايات المتحدة أن يشجع رأس المال الاستثماري على التحرك من المراكز التكنولوجية الفائقة والانتشار إلى داخل البلاد، ومساعدة المديرين التنفيذيين على التجول في المناطق المتدهورة والاجتماع مع الناشطين المحليين، مثلما كان يفعل عضوا الكونغرس رو خانا وتيم ريان. ويمكن أن يكون واحدة من المبادرات منخفضة التكاليف لتعزيز الصناعات ذات القيم العالية بالنسبة للتنوع الجغرافي.
وتشمل الفجوة الكبيرة الثانية ملف التصدير. وتصدر الولايات المتحدة في الآونة الراهنة القليل نسبياً مقارنة بحجم اقتصادها الهائل.
والسبب المحتمل في ذلك أن الولايات المتحدة هي بمثابة سوق وطنية كبيرة، لدرجة أن كثيراً من الشركات الأميركية لا تعبأ بجهود البيع للخارج. ولكن هناك أدلة على أنه بمجرد أن تحرز الشركات قفزة نوعية وتقرر المنافسة في الأسواق العالمية، فإن الإنتاجية سوف ترتفع تبعاً لذلك. ويمكن لمكتب السياسات الصناعية في الولايات المتحدة مساعدة الشركات ذات التركيز المحلي في بدء التصدير من خلال توفير المعلومات اللازمة لها، والمساعدات غير النقدية مثل التسويق، والتمويل، والدعم اللوجيستي. ومن شأن هذا المنهج أن يكون رخيصاً نسبياً، لا سيما لأنه قد يكون مؤقتاً - بعد الدفعة الأولية للمساعدة في دخول السوق العالمية، سوف يُترك لكل شركة المجال للنجاح أو الفشل من تلقاء نفسها. ويتشابه هذا المنهج إلى حد كبير مع ما يسمى استراتيجية البستنة الاقتصادية التي تستخدمها بعض المدن والولايات في تشجيع تشكيل الأعمال المحلية.
ومن خلال التدخلات الموجهة وغير المكلفة مثل ما سبق ذكره، فإن مكتب السياسات الصناعية في الولايات المتحدة، على غرار وكالة «داربا»، يمكنه استهداف مجالات التنمية، حيث أعاقت العوامل الخارجية للشبكات المحلية، والمعلومات المنقوصة، وغير ذلك من الفشل في الأسواق، جهود القطاع الخاص. ولكن على العكس من وكالة «داربا»، لا بد من توافر طاقم العمل الدائم؛ مجموعة من خبراء الاقتصاد، وخبراء التخطيط الحضري، وخبراء التكنولوجيا المعنيين بجمع البيانات وإجراء الأبحاث المتخصصة حول أنواع السياسات الصناعية التي ترجع بأقصى قدر ممكن من النجاح.
ولا وجود لمثل هذه الوكالة في الوقت الراهن. ولكن بعض الساسة المؤيدين للأعمال المؤسسية وأصحاب التوجهات المنهجية تنبغي عليهم محاولة إيجاد مثل هذه الوكالات، ولسوف يكون إرثاً قيماً لا يسهل التحلي عنه للأجيال القادمة في البلاد.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»