إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

وعليكم السلام

في منتصف القرن الماضي، تناول بيكاسو ريشته ورسم، ببضع ضربات، حمامة بيضاء وأهدى اللوحة لمؤتمر انعقد في أوروبا للسلام في العالم. من يومها صار ذلك الطائر رمزاً للتصالح والوئام، لا سيما في أوساط اليسار. يرسمون الحمامات على لافتاتهم وشعاراتهم وبطاقات التهاني بالأعياد ويذكرونه في أغنياتهم ويتنكر أطفالهم بأجنحة من ريش أبيض في الحفلات المدرسية.
قبل ذلك أشارت المعتقدات القديمة إلى الحمامة التي أرسلها النبي نوح من السفينة لاستكشاف اليابسة. وقد عادت حاملة في منقارها غصن زيتون. ومن زمن أبينا نوح حتى يومنا هذا، اشتعلت الأرض بالحروب وأشكال النزاعات. ويبدو أن الأمر أوجع قلب الأمم المتحدة فاتخذت، عام 1981، قراراً بتخصيص يوم في السنة للسلام. وهو اليوم الذي مرت ذكراه أول من أمس. هل زاد السلام في العالم خردلة، خلال السنوات السبع والثلاثين الماضية، أم تناقص؟ جاء إعلان اليوم العالمي للسلام مع اندلاع الحرب بين العراق وإيران. 8 سنوات عجاف. وسيتبعها ما هو أعجف.
لنتذكر ما حدث في خريف 1974. يوم دخل ياسر عرفات إلى اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة وقال قولته الشهيرة: «جئتكم أحمل غصن زيتون في يدي، وفي اليد الأخرى بندقية الثائر فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي». أين فلسطين، اليوم، من السلام؟ ويقال إن محمود درويش هو الذي صاغ تلك العبارات التي قرأها أبو عمّار. والشعراء في كل واد يهيمون. والهيام، في لسان العرب، مرادف للجنون، وهو يأخذ البعير حتى يهلك، فهو بعير مَهْيوم.
خطر في بال صديق من محرري الصحف أن يحتفل باليوم العالمي للسلام بالامتناع عن نشر أخبار الحروب ومقالاتها وتقاريرها وصورها في جريدته. يوم واحد لا غير دون قنابل ولا أحزمة ناسفة ولا براميل متفجرة ولا نار ولا دخان. وسرعان ما تراجع الزميل واستسلم للأمر الواقع. لم يكن من المناسب أن تصدر الصحيفة بصفحتين تنقلان أخبار السينما والغناء ومسلسلات التلفزيون، بينما كل الصفحات الأخرى بيضاء. والمثل الشعبي العراقي يقول: «بيضا بوجهك... حاشا عيونك». مهنتنا كاسدة دون نزاعات وطاخ وطيخ.
مهن كثيرة تكسد ومعامل ضخمة تشهر إفلاسها وأساطيل تُحال على التقاعد وميليشيات تتحلل ومرتزقة يجلسون على الحديدة. مقابل ذلك تمسح أمهات دموعهن وتزدهر مدن وقرى وجامعات ومشاف وتظهر غابات نخيل جديدة ويتفرغ شباب للدراسة وتهدر محطات الكهرباء وتحلية المياه وآلات الحصاد وتستعيد أوطان مهاجريها. باختصار، يعيش البشر حياة طبيعية. لا أكثر ولا أقل. ينامون على هدهدة الموسيقى، لا الرصاص الطائش وصفارات الإنذار. ومن الآن وحتى تنفرج سيتفرج العرب على فيروز وهي تغني: «بأيدينا للقدس سلام».
كم يبدو الواقع قاتماً، وكم هو العيش ضيّق دون بصيص أمل؟ وإذا كان رسم الحمائم البيض قد أصبح موضة قديمة، مثل جيلنا كلّه، فلا بأس من تعليم أحفادنا كيف يرسمون قوس قزح بسبعة ألوان.