د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

الأمية تُفزع التونسيين

لم يكن الاحتفال باليوم العالمي للأمية الأسبوع المنقضي احتفالاً عادياً في تونس، حيث هيمن خبر صادم على عموم التونسيين، كما تداولات النخب المعلومات التي وردت على لسان وزير الشؤون الاجتماعية، بكثير من القلق والاستياء. فالمعلومة الأكثر صدمة، كانت أن نسبة الأمية ارتفعت منذ تاريخ الثورة (14 يناير/ كانون الثاني 2011) إلى اليوم، وبلغت قرابة 20 في المائة، أي نحو خُمس سكان البلاد.
أولاً، كي نفهم محركات هذه الصدمة، من المهم الإشارة إلى بعض النقاط؛ أولاها أن الاحتفال باليوم العالمي للأمية، كان يمثل مناسبة فخر للتونسيين يتوقفون فيها عند الخطوات التي تم قطعها في مجال القضاء على الأمية. النقطة الثانية، أن المعلومة المشار إليها أظهرت أن نسبة الأمية في المجتمع التونسي ارتفعت، أي أن المعلومة لا تتحدث عن جمود في نسبة الأمية وأن النسبة على حالها، بل على تفاقم ظاهرة الأمية.
أما جوهر الصدمة التي أربكت النخب وأنتجت حالة من الاستياء، فيتمثل في أن التعليم هو أهم ما جنته الدولة الوطنية التونسية، وحصول عطب في هذا الحقل الاجتماعي المهم يعني أن المنجز بدأ يتآكل: لقد تمتعت المسألة التربوية بأولوية مطلقة في سلم اهتمامات السياسة، وسعت الدولة الوطنية إلى تحقيق نوع من الحراك الاجتماعي بفضل عدد من الإصلاحات التي أدخلتها على التعليم، حيث هدفت سياسة إصلاح التعليم إلى التونسة والتعريب والعصرنة، وإلى ربطه بالتنمية وإخضاعه للتوجهات، التي تحقق معادلة الأصالة والتفتح، مع منح العقل مكانته المهمة في الفلسفة التربوية القومية. كما تؤكد تجربة الدولة الوطنية التونسية، أن اتجاهات مشروع إصلاح التعليم في نقطتين اثنتين؛ الأولى تتمثل في تلافي الضرر والخلل اللذين كانا موجودين في برنامج التعليم إبان عهد الحماية الفرنسية، وهما التعليم الزيتوني والتعليم الاستعماري.
وربما ما يؤكد حقيقة ارتباط مبادئ مشروع إصلاح التعليم وفلسفته بسياسة التحديث العامة للدولة الوطنية، هو وصل مشروع إصلاح التعليم بنظام التنمية، الذي يقوم على أربعة مبادئ، يلخصها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في الديمقراطية، والنجاعة، والأصالة، والتفتح. لذلك، فإن التوجهات العامة لمشروع إصلاح التعليم، التي تمحورت بالخصوص في ديمقراطية التعليم وتوحيده، تحمل في جوهرها تطلعات عقلنة المجتمع التونسي، من خلال تكريس تعليم عصري يقوم على العقلنة والقومية، وهو ما يصب في عمق قيم النماذج المثالية المستوردة التي تبنتها الدولة الوطنية الحديثة.
إذن، الهدف من إيراد هذه الديباجة التاريخية التذكير بمعطى رئيسي، وهو أن التعليم في قلب المشروع التونسي، وأن أي نكسة في هذا الموضوع هي مصدر استياء حقيقي.
طبعاً، قد يضع البعض ارتفاع ظاهرة الأمية في أكثر البلدان العربية ريادة في مجال التعليم في سياق ما عرفته تونس من ارتباك خلال السنوات الأخيرة، وأن الأمر لا يعدو أن يكون وعكة عابرة لا أكثر ولا أقل.
غير أن التفكير بعمق في هذه المسألة قد ينتهي بنا إلى ملاحظات تكشف عما هو أكثر من مجرد عطب ظرفي عابر. من هذه الملاحظات التمثلات السلبية المهيمنة على عدد من التونسيين اليوم حول وظيفية التعليم، وكيف أنه لم يعد مصعداً اجتماعياً للكرامة المادية وتحقيق الأحلام المادية بقدر ما أصبح مصعداً للبطالة.
أيضاً، تراجع الثقة في التعليم بشكل عام إنما يعكس توتراً في علاقة التونسي بالمستقبل والحياة بشكل عام. وهنا لا بد من الانتباه إلى أن الوضع الاقتصادي وارتفاع نسبة البطالة ومظاهر الفقر وغياب خطة اقتصادية واضحة... كل هذا يمثل مصدر تشاؤم يؤثر بدوره على الطاقة الإيجابية والرغبة في التعليم والمعرفة والثقافة.
إذن، المشكل قائم الذات، وواضح أن الحكومات المتعاقبة خلال السنوات الأخيرة أهملت مسألة معالجة الأمية، وهو في الحقيقة أمر قابل للتجاوز. ولكن هناك ظواهر أخرى هي التي غذت ما وصفناه بالصدمة عند التونسيين، ونذكر هنا ظاهرة الانقطاع المبكر عن التعليم النظامي التي تقول آخر الأرقام، إنها بلغت 120 ألف تلميذ. ويمكننا أن نتساءل عن السيناريوهات الموجودة أمام المراهقين المنقطعين عن التعليم، ولا نشك في كون غالبيتها سوداوياً.
يبدو لنا أن ظلال التعثرات الاقتصادية قد طالت المجالات كافة، وهو ما يؤكد أن البعد الاقتصادي هو أساس كل الحقول الاجتماعية. ومن المهم الانخراط في نقاش وتفكير اجتماعيين معمقين لمعالجة هذه الظواهر الخطيرة، حيث لا يمكن توقع أي مستقبل مشرق في ظل مؤشرات تُظهر ارتفاع نسب الأمية وازدياد ظاهرة الانقطاع المبكر عن الدراسة؛ إذ لا مستقبل دون رهان على التعليم والمعرفة رهان مليء بالثقة وليس بالتمثلات السلبية.