مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

البصرة... غزيرة النفط شحيحة المياه

طفح الكيل. لم يعد بإمكان أهل البصرة السكوت عن عقود من الظلم، وخرج الآلاف للتظاهر ضد ما عانته الفيحاء من عدم حصولها على أبسط الخدمات. أغنى مدن العراق الغزيرة بالنفط والمتكئة على الخليج العربي والشاهدة على التقاء دجلة والفرات تعاني العطش، تعاني من شحة المياه الصالحة للشرب أو حتى تلبية أبسط الاحتياجات.
سقط خلال المظاهرات 15 قتيلاً والعشرات من الجرحى -بينهم شباب ورجال أمن. وقد سقطت آمال الملايين من العراقيين بالخروج من الأزمات المتتالية. كان من اللافت تزامن المظاهرات مع المشاورات السياسية في بغداد حول تشكيل الحكومة -والفارق الكبير بين هموم الشارع وهموم الساسة. لم تكن تلك المشاورات حول كيفية تأمين المياه الصالحة للشرب، أو معالجة البطالة، أو وضع خطة شاملة للاقتصاد، أو تحقيق الأهداف الاستراتيجية للبلاد. بل كانت عن «الحصص» وأسماء المرشحين لشغل المناصب. حلقة جديدة من مسرحية «الكراسي» التي تتبادلها الأحزاب السياسية وتساوم عليها.
وفشل البرلمان العراقي في تسمية رئيسه يعكس فشل ممثلي الشعب في تلبية احتياجاتهم. والآن هناك مطالبات باستقالة رئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي من دون تحديد البديل المناسب. كالكثير من التصريحات السياسية في العراق، الغرض من المطالبة رفع الحرج عن المتورطين في أزمة البلاد من دون أن تؤدي هذه الخطوة إلى نتيجة ملموسة. القضية لا تُختصر على تسمية رئيس الوزراء الجديد، بل قضية سوء إدارة الدولة لسنوات طويلة، وعدم تقديم المصلحة العامة على المصالح السياسية والشخصية.
قد لا يصدق القارئ أن العراق لديه وزارة كاملة اسمها وزارة الموارد المائية -وزارة بميزانية لا بأس بها ووزير يتمتع براتب ضخم وحمايات وصلاحيات. إنها الوزارة المسؤولة عن بلد شهد خلال الأشهر الستة الماضية جفاف أحد أهم مصادر المياه العذبة للعراق (نهر دجلة) وشهد تلوث مياه أهم مدنه، البصرة، ما أدى إلى تسمم أكثر من 20 ألف مواطن. زادت معاناة الملايين خلال أشهر الصيف القاسية. وعندما عقد البرلمان العراقي جلسته الطارئة حول أزمة البصرة، قال الوزير حسن الجنابي إن «مياه الشرب والمياه المعالجة تخضع لاختصاصات أخرى»، أيْ خارج نطاق عمل الوزارة. وأضاف أن «حادث التلوث لم يحصل في منظومة المياه الخام». وأعطى تبريرات لعدم مسؤوليته في شهادته أمام البرلمان، بدلاً من السعي إلى إعطاء مقترحات والعمل على حلول تحدّ من معاناة الشعب. وهذا دليل بسيط على انعدام المسؤولية عند الغالبية من الساسة، ونتيجة لعدم محاسبة المفسد أو المقصر.
عدم محاسبة المسؤولين، والسماح بالفساد المستشري، أدّيا إلى أزمات متلاحقة في العراق. التمادي الذي تشهده البلاد نتيجة مباشرة لعدم محاسبة أي مسؤول من الصف الأول خلال السنوات الماضية. كلما كانت هناك قضية تخص المال العام، وفتح تحقيقات لمحاسبة مسؤول عراقي، النتيجة كانت واحدة -هروب المتهم إلى دولة أخرى وفي أحيان قليلة سقوط كبش فداء من المسؤولين الصغار. لم يُسجن أو يعاقَب مسؤول من الصف الأول على سلسلة من الجرائم في حق الدولة: من تهريب الآثار، إلى صفقة السلاح بقيمة 4.2 مليار دولار عام 2012، إلى سقوط الموصل في أيدي «داعش» عام 2014، وتسمم أكثر من 20 ألف مواطن في البصرة... اللائحة تطول، والتفاصيل مختلفة ولكن النتيجة واحدة «حاميها حراميها».
«المحافظة» يتحمل جزءاً غير قليل من اللوم. بموجب النظام السياسي العراقي بعد 2003 المحافظات لديها صلاحيات ومسؤوليات أوسع بكثير من السابق. وبينما مجلس المحافظة يلوم العاصمة على التقصير، بغداد ترد بأن مجلس المحافظة فشل في أداء مهامه. الفيدرالية عندما تكون ناجحة تكون أفضل أداة لإدارة دول متنوعة في هويات سكانها واحتياجات محافظاتها. ولكن عندما تصبح الفيدرالية سبباً آخر في تهرب الأطراف المحلية والاتحادية من المسؤولية، تكون كارثية.
بين تارة وأخرى، نسمع عن أطماع ساسة في إقامة «إقليم البصرة»، خصوصاً أن البصرة تتمتع بثروة نفطية وزراعية طائلة. وقد عادت تلك الأصوات خلال هذه الأزمة، ولكن مرة أخرى تأتي ممن يريد المنفعة السياسية من دون إيضاح كيف يمكن لأهل البصرة الاستفادة من هذا المشروع. فالفساد محلي مثلما هو اتحادي، وعدم وضع الآليات لحماية المال العام، مثل تقوية العمل الرقابي والقضائي، يعني تكرار الأزمة على كل الأصعدة.
لقد وُجهت تهديدات بالقتل إلى المتظاهرين وتم اعتقال العشرات، كما حاول بعض الأطراف أن تخطف التحرك الشعبي. وذلك أدى إلى تراجع المظاهرات، ولكنه لا يعني أن الناس قبلوا بالوضع أو أنهم لن يثوروا ثانية. وهناك دلائل على تورط بعض الميليشيات وبعض العناصر الموالية لإيران بالوقوف وراء التهديدات. كان غضب المتظاهرين تجاه طهران واضحاً ومبرراً. ورفع العلم العراقي بدلاً من العلم الإيراني دليل على رفض الشعب لأن تكون لإيران اليد الطولى في البصرة.
بالطبع، لا يمكن الترحيب بمهاجمة ممثلية دبلوماسية تحت أي ظرف. ولكن عندما تصبح الممثلية رمزاً للتدخلات السلبية في البلاد وتساهم بالضرر، من غير المستبعد الغضب الموجه إليها.
لقد رفض الشارع العراقي تكراراً أكذوبة الطائفية. ومرة أخرى نرى أن محافظة ذات أغلبية شيعية مطلقة لم تستفد بشيء من تولي أحزاب إسلامية تدّعي أنها تمثل الشيعة السلطة في البلاد. ولهذا نرى الأحزاب هذه في حالة ارتباك حقيقي.
خطورة الموقف الحالي تتعلق بأهمية البصرة اقتصادياً واستراتيجياً للعراق، بالإضافة إلى أنه يعكس مدى الرفض الشعبي للوضع السياسي الراهن.
لا توجد قوة شاركت في الحكم خلال السنوات الماضية يمكنها أن تدّعي أنها لم تخطئ أو تشارك ولو نسبياً في تدهور الأوضاع. مع هذا، من الضروري الاعتراف بوجود قلة من المسؤولين سعوا لخدمة الشعب، ولكنهم كانوا يعملون ضد تيار قد استشرى من الفساد والتفريط بالمصلحة العامة. هؤلاء ومعهم مجموعة من النواب الذين يدخلون البرلمان للمرة الأولى أمامهم فرصة ملحة للقيام بمهامهم والنهوض بعمل جاد.
لا بديل عن العمل السياسي والبحث عن حلول مجدية من خلال الآلية السياسية. وإلا ما شهدناه من تحرك الشارع البصري يمكن أن يصبح بداية انتفاضة شعبية واسعة في كل العراق بعد أن طفح الكيل.