نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

الركود الكبير لم ينتهِ أبداً للعلوم الإنسانية

يعاني التعليم الإنساني في الولايات المتحدة من حالة انهيار كبيرة. ويعكس ذلك الهبوط على الأرجح أن طبيعة ما يرغب فيه الطلاب الأميركيون من التعليم الجامعي في تغير مستمر، حيث إن المزيد من الطلاب يلتحقون بالجامعة سعياً وراء الأموال فحسب.
كتب أستاذ التاريخ بجامعة واشنطن البروفسور بنيامين شميدت مؤخراً مقالاً مطولاً في إحدى المدونات أثبت فيه، على نحو مقنع للغاية، أن عدد الطلاب الأميركيين الذين يتخصصون في مجال العلوم الإنسانية قد انخفض بشكل كبير للغاية في السنوات العشر الأخيرة. وقبل خمس سنوات، اعتقد البروفسور شميدت أن الأمر لن يعدو كونه حالة مؤقتة من آثار الركود الاقتصادي الكبير. ولكن يبدو أنه غيَّر رأيه بعد هذا المقال.
وقال البروفسور شميدت: «كانت السنوات الخمس الأخيرة شديدة القسوة على كل طالب من الطلاب المتخصصين في مجال العوم الإنسانية... وهناك، بالمعنى الحرفي للكلمة أزمة حقيقة... فبدلاً من التعافي مع اقتصاد البلاد، تسارعت وتيرة الانخفاض بين عامي 2011 و2012».
ويوثّق البروفسور شميدت حالة الهبوط تلك بعدد من نقاط البيانات. من عام 1990 حتى عام 2008، كانت درجات الطلاب في مواد اللغة الإنجليزية، والتاريخ، واللغات الأجنبية، والفلسفة، تشكل 8% من إجمالي الدرجات الجامعية في الولايات المتحدة؛ أما اليوم، فلا تتجاوز هذه النسبة 5% فقط على الأكثر. والدراسات الكلاسيكية، مثل الفنون، والأديان، والأدب المقارن تتشارك جميعها في انخفاض الدرجات لدى الطلاب بنسب متفاوتة. ويبدو أن الاتصالات، والدراسات الإثنية والجنسانية، واللغويات (أو اللسانيات) تحتفظ بموقف ثابت حتى الآن على صعيد درجات الطلاب، رغم أن المادتين الأخيرتين تمثلان نسبة 0.3% و0.12% فقط على التوالي من إجمالي الدرجات الجامعية. بيد أن العلوم الإنسانية لم تشهد هبوطاً في الدرجات فقط، وإنما في إجمالي عدد الطلاب كذلك.
ولكن، لماذا يحدث هذا الأمر؟ يسرد البروفسور شميدت لذلك جملة من النظريات، غير أن توقيت الانخفاض يبدو أنه يلعب دوراً حاسماً في الأمر. كانت سوق العمل شاقة وعسيرة للغاية طوال العقد الذي شهد الركود الكبير. والأكثر من ذلك، من المحتمل أن تداعيات الأزمة المالية كانت بمثابة الضربة القاصمة، وربما الدائمة، للكثير من توقعات الشعب الأميركي بآفاق الرخاء والثروة المتزايدة بكل سلاسة. أما بالنسبة إلى الجيل الذي نما وترعرع في أثناء وبعد الركود الكبير، فإن إدراكه لحقيقة أن الكارثة الاقتصادية قد تحل بالبلاد في أي وقت قد صارت محفورة في أذهانهم وعالقة في مخيلتهم كمثل النقش على الحجر الصلد.
وهذا الشعور بالخطر الداهم والندرة الدائمة يعني أن الشباب الأميركي لم يعد يشعر بأنه قادر على التخصص الجامعي في أي مادة أو مجال يروق أو يحلو له. بدلاً من ذلك، فإنهم يشعرون بأنه يتعين عليهم سلوك السبيل الآمن والانطلاق لجمع الأموال. ولا يملكون في مَعرض ذلك إلا الانتباه إلى - مع بعض الاستثناءات اللازمة - أن فرص العثور على الوظيفة عادةً ما تكون أفضل لخريجي كليات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، عن خريجي العلوم الإنسانية. كذلك، فإن الدرجات الجامعية في مواد العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، والاقتصاد، تميل إلى كسب مزيد من الأموال مقارنةً بوظائف العلوم الإنسانية على اختلاف مجالاتها.
وتتعزز نظرية انطلاق طلاب الجامعات وراء كسب الأموال بالعديد من الاتجاهات القائمة الأخرى التي عطف البروفسور شميدت على سردها. وكما كان متوقعاً، فإن التخصص في مواد العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، والاقتصاد، قد اكتسب نصيبه المفروض من سوق العمل، تماماً كما حدث مع التخصصات ذات التوجهات المهنية في مجالات مثل الرعاية الصحية. أما العلوم الاجتماعية العادية، مثل علم الاجتماع، وعلم الأجناس البشرية، والتي في غالب الأمر لا ترجع بعوائد كبيرة في سوق الوظائف والعمل، فهي في تراجع مستمر وهبوط مطّرد. والحقيقة الثالثة المؤيدة للنظرية تفيد بأن التخصصات الإنسانية كانت تحظى بشعبية هائلة في عقد ستينات القرن الماضي المزدهر اقتصادياً، وعاودت الهبوط مرة أخرى في عقد السبعينات مع التباطؤ الاقتصادي المعروف وقتذاك.
لذا، وبصرف النظر تماماً عن الأسباب الأخرى التي تدفع الطلاب إلى النأي بأنفسهم عن التخصص في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية الأخرى لصالح التخصص في مواد العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، والاقتصاد، فإن المال يبدو أنه يحتل الجانب الأكبر من الأمر. لقد حققت سوق العمل التعافي حالياً من الركود الكبير، ولكن سوف يمر وقت طويل قبل أن نرى جيل الطلاب يحوّل ناظريه شطر الكليات التي لم يتشكل وجه سنواتها التكوينية بعواصف الأزمات الاقتصادية المزرية.
لذلك، هل من شأن العلوم الإنسانية أن تدرك بعض التعافي؟ إن كان الهبوط السبعيناتي في درجات العلوم الإنسانية يُشكل أي مؤشر كان، فإن التراجع في التخصصات الإنسانية والاجتماعية قد يطول عهده بأكثر من المتوقع. ومن المرجح لأقسام العلوم الإنسانية أن تنزوي استجابةً لانخفاض معدلات الالتحاق بالمراحل الجامعية المختلفة. وهذا، مُضافة إليه الندرة الواضحة في خريجي العلوم الإنسانية الأكبر سناً باعتبارهم نماذج يجدر الاحتذاء بها، ربما يعني التدني المتوقَّع في اهتمام الطلاب بمثل هذه العلوم ولفترة طويلة من الزمن.
وفي الأثناء ذاتها، قد لا يكون المال هو السبب الوحيد الذي يدفع الطلاب إلى الفرار من التخصص في العلوم الإنسانية والاجتماعية. فهناك الصعود الواضح في برمجيات الرسوميات الحاسوبية، وجداول البيانات، والبرمجيات الإحصائية، والتي تعني أننا نعيش في عصر تهيمن على أركانه البيانات بصورة مفزعة. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن البروفسور شميدت، المؤرخ الكبير، يطرح حجته من واقع أن مجاله الدراسي ذاته يشهد تدهوراً ملحوظاً إثر استخدام الرسوم البيانية التوضيحية والأرقام بدلاً من النثريات البلاغية المنمقة.
ومن شأن إحدى القوى أن تساعد العلوم الإنسانية على إدراك التعافي، ألا وهي صعود التعلم الآلي. إذ يعتقد الكثيرون ممن يتابعون التطور السريع في مجال التعلم الآلي -والذي يُطلق عليه في بعض الأوساط الذكاء الصناعي- أن المهارات الشخصية الأولية سوف تحوز المزيد من الأهمية بالنسبة إلى سوق العمل خلال العقود المقبلة. ومع الماكينات التي تقوم بالكثير من الأعمال الفنية والتقنية التي يضطلع بها المهندسون، كما تقول النظرية، فإن الشركات سوف تكون في حاجة، في وقت ما، إلى البشر للتفاعل والتعامل مع البشر الآخرين، من حيث تسهيل خدمة العملاء، واتخاذ القرارات الاستراتيجية، وبناء وتوطيد علاقات العمل المختلفة.
وتلك هي المهام التي تعد علوم الإنسانيات مجهزة لتوفيرها مع اعتبار تأكيد مهارات التعاطف، والإقناع، والعواطف الإنسانية. حتى وإن لم ينته الأمر بالماكينات في احتلال وظائف المهندسين، فإن التركيز الأكبر سوف ينصبّ على الكتابات المقنعة، والتفاعل البنّاء في إقامة العلاقات المشتركة من خلال دورات العلوم الإنسانية في الجامعات - بدلاً من قراءة النصوص الجامدة أو غير ذلك من الأنشطة العادية ذات الطابع الأكاديمي. وربما يجعل من هذه التخصصات تبدو أكثر عملية وذات توجهات وظيفية ومهنية بالنسبة إلى الطلاب الجامعيين المحتملين. وبدلاً من إجبار الطلاب على التركيز المحض على الاستقلالية الذاتية والتعليم العام، يمكن للعلوم الإنسانية أن تتحسن كثيراً من خلال الترويج لفوائدها العملية في المهارات الشخصية.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»