د. محمود محيي الدين
المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.
TT

في محلية التنمية

بحلول الشهر القادم تكون قد مرت ثلاث سنوات، منذ أقر قادة الدول أهداف التنمية المستدامة في قمة خاصة للأمم المتحدة. وُصفت هذه الأهداف منذ الاتفاق عليها بأنها طموحة، وهي حقاً كذلك، سواء بالاعتبارات الكمية أو النوعية، أو ما يلزمها من استثمارات وتكاليف تمويلية ضخمة، في فترة لا تتجاوز خمسة عشر عاماً منذ تدشينها.
فقد عزمت الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، على أنه مع نهاية عام 2030 سيتم التوصل إلى إنهاء مشكلة الفقر المدقع وسوء التغذية، والارتقاء بالتعليم والرعاية الصحية، وتحقيق العدالة في فرص التنمية، وتمكين المرأة اقتصادياً واجتماعياً، وما إلى ذلك.
وتشير الدراسات المبدئية إلى أنه باستثناءات محدودة فإن جهود التنفيذ على أرض الواقع، خلال السنوات الثلاث الماضية، لم تلب طموحات التنمية المستدامة حتى على مستوى الدول المتقدمة اقتصادياً. فقد أشارت تقديرات أخيرة صادرة عن خبراء معهد بروكنجز بالولايات المتحدة الأميركية، إلى أن 14 مؤشراً من إجمالي 16 هدفاً تم رصدها، مثل مكافحة الفقر وتحسين نوعية التعليم، لن تصل حتى إلى نصف ما اتفق عليه قادة الدول من أهداف بحلول عام 2030، إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه؛ بل إن مؤشرات العنف ضد المرأة توضح أنه لن يتم تحقيق تحسن يتجاوز 10 في المائة مما تم الاتفاق عليه، كما أن بعض المؤشرات الصحية للأطفال تسير في الاتجاه المعاكس لتوجهات التنمية.
ليس من الصعب أن توضع قوائم مطولة لأهداف طموحة للتنمية، ولكنه من الصعب حقاً أن تنفذ هذه الأهداف، فهي تتطلب فضلاً عن تمويل ضخم عام وخاص، سياسات عامة منضبطة ومؤسسات ذات كفاءة تصوغها وتطبقها وتتابع تنفيذها.
وفي مقال كتبته مع د. إيدي إجاس – فاسكيز، أوضحنا أن منهجاً للعلاج يكمن في «محلية التنمية» بمعنى «localization»، وهو منهج للعمل يختلف تماماً عن النهج التقليدي لنظم المحليات البيروقراطية. وبعيداً عن الجدل النظري في موضوع تطبيقي وعملي بالأساس، فقد أظهرت الأدلة والشواهد من 17 حالة لدول في مستويات متباينة من التنمية، أن فجوات في القدرات المحلية في القرى والمدن يرجع إليها النجاح أو الفشل في تحقيق النتائج المستهدفة لبرامج ما يعرف بالأهداف الألفية للتنمية، التي بدأت في عام 2000، وانتهت في عام 2015، التي حلت محلها أهداف التنمية المستدامة. وقد حوى هذه التجارب تقرير تفصيلي مشترك صادر عن البنك الدولي والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة.
وفي هذا العالم الذي تتسارع فيه معدلات نمو المناطق الحضرية بشكل غير مسبوق، وتزداد الهجرة الداخلية إليها من المناطق الريفية والنائية، كما يزداد معدل النمو السكاني في هذه المناطق، وستقترب نسبة ساكني الحضر من ثلثي إجمالي السكان في عام 2030، وستكون أعلى معدلات الزيادة في نمو المدن كبيرة الحجم، التي يتجاوز عدد سكان كل منها 5 مليون نسمة، في آسيا وأفريقيا، لن تجدي الأنماط التقليدية للإدارة المحلية نفعاً مع هذه الزيادات في معدلات النمو السكانية والحضرية، خاصة مع مكونها الشبابي المرتفع. وقد يراها البعض تحدياً، ويراها ذوو العزم فرصة للاستثمار في البنية الأساسية الممكنة للارتقاء بالثروة البشرية، بالتخطيط المتطور والابتكار في إيجاد التمويل المناسب وحشد الطاقات من خلال منهج محلية التنمية؛ وهناك أربع تجارب ذات دلالة من الشمال والجنوب والغرب والشرق، للاستدلال والاعتبار.
أولاً، تجربة الدنمارك، في الثمانينات من القرن الماضي كانت العاصمة كوبنهاغن تعاني من أزمات عدة: بطالة مرتفعة تجاوزت 17 في المائة، وزيادة عجز الموازنة، وتردي المحصلة الضريبية، وتركيبة سكانية غلب عليها كبار السن وأرباب المعاشات، ونظام دعم خاطئ تسبب في تشجيع الشباب على السكنى في خارج المدينة.
للتعامل مع هذه الأزمات، اتفق عمدة مدينة كوبنهاغن مع رئيس الحكومة على زيادة الاستثمارات في البنية الأساسية والعمران، بما يشجع على جذب ساكنين جدد إليها، بقدرة على العمل والإنفاق المتجدد فيها، وأن يتم تنفيذ ذلك في إطار برنامج زمني محدد. نجح هذا البرنامج في تحويل هذه المدينة التي كانت بائسة يائسة إلى الصورة التي تشهدها اليوم كوبنهاغن من حيوية ورفاهية جعلتها تتصدر سباق المدن الأفضل في المعيشة عالمياً. تم تنفيذ ذلك دون زيادة الضرائب، لضعف المقدرة الضريبية؛ لكن من خلال استغلال الأصول المعطلة وغير المستغلة بإنشاء آلية مؤسسية مملوكة ملكية عامة، وبإدارة خاصة للتطوير والتنمية للأصول العقارية، كمرحلة أولى تزامن معها الشروع في المرحلة الثانية التي تمثلت في تطوير ميناء كوبنهاغن، وربطه بميناء مالمو في السويد. أما المرحلة الثالثة فقد دمجت بين عناصر المرحلتين مؤسسياً تحت جهة إشراف واحدة، وبتنسيق بين النطاق القومي المركزي والنطاق المحلي الذي يتمتع بمرونة اكتسبها من تاريخ طويل من اللامركزية، وبتفعيل كامل للمزايا النسبية للنطاقين.
اعتمدت التجربة على توصيف معرفي دقيق للأصول المختلفة والالتزامات والتنسيق بين الجهات العامة المختلفة المالكة لهذه الأصول، والاتفاق على تحديد أساليب استغلالها، ومنع التدخلات السياسية في القرارات ذات الطبيعة الفنية في إطار منضبط للحوكمة.
ونعرج إلى كينيا جنوباً؛ حيث تشهد تسارعاً في النمو الحضري، وهجرة متدفقة لأبنائها للمعيشة في المدن، بما تمنحه من فرص وخدمات أفضل نسبياً من المناطق الريفية. ولكن كينيا تواجه تحدياً كبيراً، حيث إن 60 في المائة من سكانها يعيشون في مناطق غير منظمة وعشوائية بلا خدمات أساسية، ويسيطر على سوق العمل النشاط غير الرسمي. كما يتسبب الازدحام المروري في تكاليف باهظة على الاقتصاد، ويدفع الناس إلى الاضطرار للسكن في عشوائيات قريبة من محال أعمالهم تفادياً للزمن والتكاليف.
في عام 2010، قررت كينيا منح مزيد من الصلاحيات للسلطات المحلية في 47 مقاطعة إدارية، لتقديم خدمات أساسية للمواطنين؛ لكن هذه الصلاحيات الممنوحة لم تواكبها مخصصات مالية مناسبة، وهو ما تداركته الدولة بعدها من خلال سياسة جديدة للتنمية الحضرية تدعمها إصلاحات مؤسسية للسلطات المحلية وحوكمتها، وإدارتها للأصول المتاحة، وتطوير نظام للمنح والتحويلات إلى السلطات المحلية، يرتبط برفع الكفاءة المؤسسية وتدبير الموارد اللازمة للإنفاق على الخدمات الأساسية.
وإلى الغرب، حيث عانت مدينة مدايين الكولومبية من ويلات حرب أهلية وجريمة منظمة، حتى أمست أعلى المدن على مستوى العالم في معدلات ضحايا الجرائم في التسعينات. ومن رحم هذه الأزمات تولدت برامج متكاملة للتنمية مع برامج لمكافحة العنف والجريمة، وطورت في الوقت ذاته مدينة مدايين من نظم الإدارة المالية المحلية، من خلال اتباع معايير عالمية ووطنية تتوافق مع النظام المعمول به في العاصمة بوغوتا، وتعاونت مع شركات القطاع الخاص في إتاحة فرص للتدريب والعمل. تعترض تجربة مدايين تحديات متنوعة؛ لكنها حققت نجاحات ملموسة في دولة تمكنت منذ أسابيع قليلة من أن تقبل كعضو جديد في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهو تجمع للدول الأعلى دخلاً. وهذه صورة من غرب العالم لمحلية التنمية.
ومن الغرب إلى الشرق؛ حيث إندونيسيا التي يقترب عدد سكانها من 270 مليون نسمة، وهي واحدة من أكثر الدول متوسطة الدخل حيوية، إذ تشهد انخفاضاً في مؤشرات الفقر، وزيادة في الدخول المرتبطة بتحسن معدلات التشغيل في المدن. فمع بداية الألفية الجديدة مُنحت السلطات المحلية اختصاصات أكبر في النفقات العامة، ولكنها افتقدت القدرات المؤسسية والفنية المطلوبة للارتقاء بالخدمات الأساسية كالتعليم والرعاية الصحية والمواصلات؛ كما عانت من الافتقار للمرونة المطلوبة في زيادة الإيرادات. وقد قامت الدولة بعدة برامج للإصلاح المؤسسي المحلي وتطوير العشوائيات وبرامج الإسكان الاجتماعي والخدمات العامة.
لقد تحققت نجاحات لنهج محلية التنمية في الارتقاء بالخدمات الأساسية ونوعية الحياة، بفضل وضع قوى السوق في أيدي ملاك الأصول من عموم الناس، وبفضل مؤسسات محلية وقومية كفؤة وفاعلة. ورأينا كيف يختلف هذا النهج في تفاصيل تطبيقه عن الأساليب المتعارف عليها، التي جعلت من اللامركزية عند البعض هدفاً، ومن المركزية عند البعض الآخر مبدأ لا ينبغي التخلي عنه، وهما في مبدأ الأمر ونهايته ليسا إلا أسلوبين من أساليب الإدارة، قد يجود أحدهما في أمور ويخفق في أخرى، والأسلوبان يشهدان تحولات كبرى ترجع لمستحدثات تكنولوجيا المعلومات، التي أعادت تعريف مفاهيم البعد الزمني والجغرافي عن المركز. والتجارب الناجحة تشهد باستخدام الأسلوبين في اتساق وتناغم، بما يحقق الصالح العام والاستقرار والتقدم.
* النائب الأول لرئيس البنك الدولي
*الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي البنك الدولي