عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

أسئلة لوكربي المعلقة تعود إلى الواجهة

في ديسمبر (كانون الأول) المقبل يكون قد مضى على قضية لوكربي ثلاثون عاماً شهدت أحداثاً كثيرة ومنعطفات متشعبة، لكنها لم تنهِ التساؤلات والشكوك حول ملابسات تفجير طائرة «بان أميركان» الذي راح ضحيته 270 شخصاً، وحقيقة الجهة التي تقف وراءه، ولا سيما بعد وفاة عبد الباسط المقرحي، وهو الوحيد الذين أدين وسجن وبقي حتى وفاته عام 2012 متمسكاً ببراءته. كذلك رحل العقيد معمر القذافي مع نظامه، واختفى الكثير من الوثائق والشهود ليبقى الغموض ويستمر الجدل حول القضية، وحول سلامة بعض الأدلة ومصداقية أحد الشهود الرئيسيين، وبالتالي ما إذا كان المقرحي مذنباً أم أنه ضحية ظلم كبير وقع عليه نتيجة حكم خاطئ.
الأيام القليلة الماضية شهدت تطورين مثيرين أعادا تسليط الضوء على القضية والجدل المستمر حولها؛ أولهما تدخل الحكومة البريطانية لحجب مجموعة من الوثائق المتعلقة بقضية لوكربي، وهي وثائق كان يفترض رفع السرية عنها وفقاً لقاعدة الإفراج عن الوثائق التي مضى عليها عشرون عاماً أو أكثر، لكن تدخل الحكومة منع تطبيق الإفراج عنها مع وثائق أخرى لدواعي الأمن القومي أو حماية العلاقات الخارجية. التطور الآخر هو إعلان الهيئة الاسكتلندية لمراجعة القضايا أنها قررت قبول طلب مراجعة أوراق قضية لوكربي والنظر في الأدلة الجديدة التي توفرت لكي ترفع توصية حول ما إذا كانت هناك أرضية تبرر إحالة الموضوع لمحكمة الاستئناف مجدداً لاتخاذ قرار حول سلامة حكم الإدانة أو تبرئة المقرحي.
التطور الأول دفع بعض الناس لاتهام جهات حكومية بأنها تريد التعتيم على وثائق يمكن أن تسلط الأضواء على جوانب متعلقة بالقضية، لكن التطور الآخر هو الأهم لأنه قد يقود إلى فتح المجال لاستئناف أمام المحكمة الاسكتلندية، والنظر في كل القرائن والأدلة الجديدة التي يقول محامو الدفاع وبعض الجهات المناصرة لقضية المقرحي، إنها قد تبطل قرائن مهمة استخدمت لإدانته بما قد يؤدي لإصدار حكم بتبرئته، وإن كان بعد مماته.
الواقع أن هناك كثيرين من بينهم محامون ومختصون وخبراء معامل ومحققون سابقون وعدد من أهالي ضحايا الطائرة البريطانيين، يشككون اليوم في القرائن والأدلة التي استخدمت في المحكمة، وفي مصداقية الشاهد الرئيسي الذي استند إليه المحققون في تحديد المقرحي متهماً. ويرى هؤلاء، أن إفادة هذا الشاهد تعرضت للتعديل، وأنه غيّر أقواله وحصل على مليوني دولار عبارة عن نصف قيمة المكافأة التي رصدتها السلطات الأميركية لمن يساعد في التعرف على الجاني أو الجناة وتساعد أقواله في الإدانة أمام المحكمة.
المقرحي نفسه ظل متمسكاً ببراءته حتى وفاته؛ مما جعل أسرته ومناصريه يتابعون الاستئناف الأخير الذي كان قد قدمه قبل الإفراج عنه وترحيله إلى ليبيا عام 2009، لكنه تخلى عنه اعتقاداً منه أن ذلك سيسرع في إجراءات ترحيله في الوقت الذي كان المرض قد اشتد عليه، ورأى الأطباء أن أيامه باتت معدودة. وكانت تكهنات كثيرة قد ترددت وقتها بأنه وافق على سحب طلب الاستئناف قبل أيام قليلة من إطلاق سراحه في إطار ما سمي حينها في وسائل الإعلام بـ«صفقة في الصحراء» عقدت بين رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، لطي ملف لوكربي.
الهيئة الاسكتلندية لمراجعة القضايا في قرارها قبل أيام بقبول مراجعة أوراق القضية، أشارت إلى أنها باتت مقتنعة بأن المقرحي أوقف مساعيه للحصول على حق استئناف ثان عام 2009؛ لأنه كان يعتقد أن ذلك سيسهل الإفراج عنه لدواعٍ إنسانية. وقالت في قرارها إنها مقتنعة الآن بإعادة النظر في القضية لدواعي العدالة. الهيئة ما كانت ستقدِم على هذه الخطوة لولا أنها رأت في الأدلة والحيثيات الجديدة المقدمة ما يثير الشكوك حول متانة قرار إدانة المقرحي ويبرر النظر في القضية مجدداً، وهو ما عده المدافعون عنه إشارة إيجابية إلى إمكانية صدور توصية بإعادة القضية إلى محكمة الاستئناف.
فتح ملف القضية مجدداً سيضع تحت دائرة الضوء والاختبار نتائج التحقيقات التي استغرقت سنوات وشاركت فيها السلطات في ثلاث دول هي ألمانيا حيث أقلعت الطائرة، وبريطانيا حيث سقطت الطائرة، وأميركا، كما سيعيد الجدل حول الصفقات التي عقدت بهدف طي القضية. فبعض الذين اطلعوا على تقارير السلطات في الدول الثلاث تحدثوا لاحقاً في مقابلات مع وسائل الإعلام عن أنها تثير أسئلة أكثر مما تقدم أجوبة. كذلك، فإن المحقق الخاص الذي وظفه فريق الدفاع عن المقرحي للبحث في الأدلة، صرح مرات عدة بأن هناك ثغرات كثيرة وخطيرة في القرائن التي أدين بموجبها، وأن القضية لو نظرت مجدداً أمام محكمة الاستئناف الاسكتلندية فسوف تكون هناك وثائق دامغة تدحض بعض الأدلة وتثير الشكوك حول بعضها الآخر.
القضية لو قدر لها أن تنظر أمام محكمة الاستئناف فسوف تفتح الكثير من الملفات التي أرادت بعض الجهات أن تطويها، ولو تقررت تبرئة المقرحي؛ فإن ذلك سيعني أن ملف لوكربي سيضاف إلى سجل القضايا التي شغلت العالم طويلاً، لكن الضباب حولها لا يزال يحجب الرؤية ويخفي الكثير من الحقائق.