عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

المعركة المستمرة بعد كأس العالم

«النجاح له مائة أب، لكن الفشل يتيم» كما يقولون.
منذ فوز المنتخب الفرنسي ببطولة كأس العالم في روسيا، لم ينقطع سيل التعليقات حول هوية المنتخب، لكون أغلبية لاعبيه من جذور أفريقية. كثيرون اعتبروا أن أفريقيا هي الفائز وليس فرنسا، وراحوا يتغنون بالمواهب الأفريقية «التي لولاها لما فازت فرنسا».
لكن هل الموضوع بهذا التبسيط؟
القول إن أفريقيا هي التي توجت بالكأس وليس فرنسا ليس تعبيرا عن الفخر في تقديري، بل عن العجز. فهؤلاء اللاعبون لو كانوا في أفريقيا لما نالوا كأس العالم، والدليل أن الفرق الأفريقية التي شاركت في المونديال خرجت كلها من الدور الأول. كما أنهم لو نشأوا في أفريقيا لما وجد بعضهم طريقه إلى كأس العالم، ولربما كان يلهث مثل كثيرين وراء الغذاء والكساء والدواء، ولقتلت طموحاتهم مع مواهبهم. نحن نسارع لنتبنى لاعبي فرنسا من ذوي الأصول الأفريقية لأنهم نجحوا ورفعوا كأس العالم، لكننا نتناسى أفواج الأفارقة الذين يغامرون بحياتهم في قوارب الموت عبر البحر الأبيض المتوسط هربا من بلدانهم وبحثا عن حياة أفضل في أوروبا أو في أي مكان آخر. أفريقيا لم تكن مشكلتها نقص المواهب والعقول، بل شح القيادات الواعية المتجردة التي تحقق النمو والاستقرار لبلدانها وتوفر البيئة التي تسمح ببروز الكفاءات وتحقيق الإنجازات.
اللاعبون الذين رفعوا كأس العالم سواء أكانوا من أصول أفريقية أم مسلمين، فازوا باسم فرنسا ولعبوا تحت علمها وغنوا نشيدها الوطني، وإذا كانوا يعتزون بجذورهم الأفريقية فإنهم لا يريدون إلغاء هويتهم الأخرى الفرنسية، بل يحاولون استخدام فوزهم للترويج لرسالة التعايش والاندماج ولمحاربة العنصرية التي لا تزال موجودة في الملاعب كما خارجها.
الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تناول الموضوع من هذه الزاوية في كلمته التي ألقاها في جنوب أفريقيا خلال مشاركته في الاحتفائية بذكرى مائة عام على ميلاد نيلسون مانديلا، مشددا على فوائد التعايش والمساواة والاندماج، وضرورة إنهاء التمييز والعنصرية. وقال: إن اللاعبين فرنسيون وفازوا باسم فرنسا وإن كانوا من أصول أفريقية، ولهم أن يعتزوا بالجانبين في هويتهم لأن في ذلك تعزيزا لمفهوم التعايش والاندماج.
الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو من جانب آخر تناول الموضوع بشكل استفز كثيرا من الفرنسيين إلى الحد الذي جعل نائبا برلمانيا ينبري للرد عليه ويتهمه بالتحريض على الكراهية والعنصرية في فرنسا. فقد حيا مادورو «انتصار أفريقيا»، قائلا إن فرنسا فازت بفضل اللاعبين الأفارقة أو أبناء الأفارقة، وطالبها وأوروبا بإنهاء العنصرية والتمييز ضد المهاجرين. رأى البعض في هذا الكلام محاولة لسلخ اللاعبين عن هويتهم الفرنسية ونسب نجاحهم بالكامل لكونهم من جذور أفريقية، وليس لكونهم فرنسيين يلعبون باسم فرنسا وإن كانوا من أصول أفريقية، وعدوا هذا الكلام تأجيجا لمشاعر الكراهية والعنصرية بدلا من التشديد على مزايا التعايش والاندماج، محذرين من أن مثل هذا الخطاب يطرب القوميين والمتطرفين في اليمين العنصري الذين يعادون المهاجرين ويروّجون لمخاوف على «الهوية والثقافة الفرنسية».
قضية الهوية والعنصرية شائكة ومعقدة وقديمة، لا في أوروبا وحدها بل في كثير من أرجاء العالم، ولا يمكن اختصارها في تركيبة المنتخب الفرنسي أو في صورة استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للاعبي المنتخب، التي تداولها كثير من الناس في مواقع التواصل الاجتماعي لتوجيه اتهامات العنصرية والقول إن مسؤولي الإليزيه وضعوا اللاعبين البيض في المقدمة ودفعوا باللاعبين من جذور أفريقية إلى الصفوف الخلفية، وهو كلام لا يمكن لعاقل أن يصدقه.
محاولة سلخ اللاعبين من أصول أفريقية من هويتهم الفرنسية ضررها أكثر من نفعها، ويمكن بالفعل أن تصبح أداة في أيدي العنصريين الذين يرفضون فكرة التعايش والاندماج ويحاولون إثارة المخاوف بالحديث عن «غزو المهاجرين» وتهديد «الثقافة والقيم الأوروبية»، وعن خطر «التغلغل الإسلامي». فأكثر ما يخافه العنصريون هو بروز أصوات تتحدث عن مزايا التعايش وإثرائه للمجتمعات، خصوصا عندما يكون الحديث مقرونا بنجاحات مثلما حققه المنتخب الفرنسي أو البلجيكي حتى الإنجليزي.
وإذا كان نجاح المنتخب الفرنسي يعكس جانبا من الصورة، فإننا يمكن أن نرى جانبا آخر في قصة اللاعب الألماني مسعود أوزيل الذي أصدر بيانا قويا هاجم فيه اتحاد الكرة في بلاده عقب الضجة حول الخروج المبكر للمنتخب الألماني من كأس العالم، ووجه اتهامات بالعنصرية ضد الذين خصوه بالهجوم بسبب خسارة المنتخب وظلوا ينتقدونه بعنف منذ لقائه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في مايو (أيار) الماضي بلندن. وقال أوزيل إن الهجوم الذي شن عليه لكونه لاعبا مزدوج الهوية (ألمانيا مسلما من جذور تركية) جعله غير راغب في ارتداء قميص المنتخب الألماني بعد الآن. وبعد أن أشار إلى أن الانتقادات التي وجهت له وبعضها من شخصيات بارزة كانت تنضح بالعنصرية وعدم الاحترام لجذوره التركية، أضاف جملته التي شدت الانتباه وهي: «إنني ألماني عندما نربح، ومهاجر عندما نخسر»!
نجاح المنتخب الفرنسي لا ينبغي أن يصرف أنظارنا عن الصورة المعقدة لقضية الهوية، وعن الصراع الطويل والمستمر ضد العنصرية ومن أجل التعايش، سواء كان ذلك في أوروبا أو أميركا... أو في كثير من مجتمعاتنا.