مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

قصة حب مشلولة

إنها قصة حب مع وقف التنفيذ، وقد حدثت عام 1941 والحرب العالمية الثانية كانت على أشدها، والطائرات الألمانية تدك لندن بالقنابل ليل نهار.
ويقول بطل الحادثة: كنت أحاول في ساعة متقدمة من الليل في لندن أن أتصل هاتفياً بأحد أصدقائي، ولكن حدث اختلاط في الخطوط، فوجدت بدلاً من الاتصال بصديقي أستمع إلى امرأة تقول لعامل السنترال إن رقمي هو «غروفنور 8829»، ثم تضيف: لقد طلبت منك وصلي برقم في هامستد، فإذا بك تحولني إلى المدعو فلاكسمان في تشيلسي، وهذا المسكين لا يريد أن يكلمني.
فقلت: بل أريد أن أكلمك. وبدلاً من التظاهر بالغضب إزاء اختلاط الموقف، واجهت الأمر بروح الكياسة والمرح، ثم تبادلنا الاعتذار وأنهينا المكالمة.
وفي الليلة التالية اتصلت بها وسألتها: لمَ كنت تطلبين المكالمة في هذه الساعة المتقدمة؟ فقالت: إن أمها المسنة تأرق ليلاً، وإنها كثيراً ما تتصل بها في مثل هذه الساعة، ثم دار حديثنا حول ما نقرأ من الكتب، وكان من الطبيعي أن نتناقش في أمر الحرب، وأخيراً قلت لها: لا أذكر أني استمتعت بحديث كهذا منذ سنوات، وبادلتني هي الشعور نفسه.
لا أريد أن أطيل عليكم، فلم تخلُ ليلة من مكالماتهما معاً، وعرف منها أنها انفصلت عن زوجها، وان ابنها الوحيد الطيار قد قتل وهو في الثامنة عشرة من عمره، وأن وجهه كالفجر وهو يشبهها.
ويمضي قائلاً: عشت اثني عشر شهراً في غبطة رائعة، وكلما وقعت غارة شديدة أتصل لكي أطمئن عليها، وكلما وقعت غارة على تشيلسي تتصل لكي تطمئن عليّ.
غير أن القدر كان بالمرصاد؛ فقد عدت من الريف في إحدى الليالي إلى لندن والتقطت سماعة الهاتف وأدرت القرص على رقمها، وبدلاً من أن أسمع الرنين الصافي الذي يبشر بقدومها، إذا بالخط معطل.
فاتصلت بالاستعلامات وتوسلت للحصول على عنوان المسكن المقابل لرقم الهاتف «غروفنور 8829»، وكنت أعرف أن مخاطبتي لم تدون رقمها في الدليل خوفاً من مضايقة زوجها الذي انفصلت عنه.
وكانت الصدمة التي كادت تقضي عليّ، عندما أخبروني أن العمارة المذكورة قد ضربتها القنابل وتهدمت على من فيها – انتهى.
الخلاصة: هذه الحادثة تثبت صدق ما قاله الشاعر من أن «الأذن تعشق قبل العين أحياناً».
الحب يا سادتي أشبهه بالنهر الجاري الخالد، الذي لا يقف في وجهه لا الحرب، ولا القنابل، ولا حتى الموت.