إميل أمين
كاتب مصري
TT

الناتو... قمة في مهب الريح

قبل أيام معدودات من قمة حلف الناتو التي ستُعقد في العاصمة البلجيكية بروكسل، بدا كأن السؤال الجوهري الحقيق طرحه: «هل من مستقبل بعد للناتو أم أن إرهاصات نهاية هذا التحالف الغربي الذي دام لأكثر من سبعة عقود بين ضفتي الأطلسي تشي بأنه في مهب الريح»؟
الشاهد أنه حين دعت الحاجة إلى نشوء وارتقاء حلف الأطلسي كان الهدف الرئيس مواجهة الاتحاد السوفياتي، المهدِّد الأول لأمن وسلام أوروبا الغربية، ومن وراء المحيط الولايات المتحدة الأميركية، غير أن تناقضات القدر تخبرنا الساعة أن أمن أوروبا اليوم من دون روسيا غير مضمون، فيما تنادي الأصوات العاقلة في الداخل الأوروبي بأنه لا مفر من إيجاد طريقة للتعاون مع روسيا، والمثير كذلك أن أصوات روسية بدورها تطالب بحتمية التعاون الخلاق والاستراتيجي مع أوروبا، ومن هنا يتعاظم الطرح الأوراسي من الأطلسي غرباً إلى جبال الأورال شرقاً، فيما تتوارى الحاجة التقليدية إلى فكرة الناتو بدرجة أو بأخرى.
على أن أكثر ما يشغل الدول الأوروبية في ما يخص مستقبل الناتو لا يتصل بروسيا – بوتين، بأكثر من القلق والتوجس من الحليف الأميركي الأكبر والذي كان أداة ضامنة حتى وقت قريب، إلا أن مواقف الرئيس ترمب من الحلف، جعلت الأوروبيين أنفسهم يهمسون اليوم سراً في المخادع بالقول: هل لهذا الثنائى (الأوروبي – الأميركي) أن يظلا معاً طويلاً، أم أن قرار الانفصال ولو من دون طلاق بائن هو السيناريو الأقرب؟
على هامش اجتماعات قمة الـKG7 وصف الرئيس ترمب حلف الناتو بأنه أسوأ من اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية «نافتا»، وأنه مكلّف للغاية للولايات المتحدة.
لم تكن مشاعر وتوجهات ترمب تجاه الناتو خافية على أحد حتى قبل أن يدلف إلى البيت الأبيض، إذ اعتبر خلال حملته الانتخابية، الحلف منظمة «بالية». وقبل نحو أسبوعين، وفي سابقة تنمّ عن النظرة الأميركية إلى التوجهات الأوروبية، رفضت إدارة ترمب منح تأشيرة خاصة لخافيير سولانا الأمين العام السابق لمنظمة حلف شمال الأطلسي، لدخول أميركا، ربما عقاباً للرجل على التزامه باتفاق خطة العمل الشاملة مع إيران، المعروفة ضمناً بالاتفاق النووي.
منذ أيامه الأولى في البيت الأبيض لم يُعِر ترمب انتباهاً كبيراً لفكرة الصدام مع روسيا، الأصل الآيديولوجي لطرح الناتو، بل على العكس من ذلك، أظهر تقارباً واضحاً من بوتين، ونحا إلى جهة رسم تباشير أفق واعد من واشنطن إلى موسكو، قبل أن تقطع عليه الدولة الأميركية العميقة حلمه المخملي، مظهرةً أوراق «روسيا – غيت» المسلطة على رأسه كسيف ديموقليس من جديد.
على أنه رغم الضغوط التي يلاقيها ترمب في الداخل الأميركي سواء من قبل المجمع الصناعي العسكري الأميركي، ونظيره المالي، وقوى أخرى خافية ما أنزل الله بها من سلطان لم يذهب ترمب في طريق تعزيز أفكار المواجهة المسلحة مع الروس، لا سيما مسألة الدرع الصاروخية في بولندا، وإن كان البنتاغون وكبار جنرالاته ساعين قدماً في ترميم القواعد العسكرية في شرق أوروبا استعداداً لحرب ضد روسيا، ما يطرح سؤالاً واجب الوجود: «لمن الحكم في أميركا اليوم؟».
ترمب قولاً وفعلاً رجل مال وأعمال، هذه هي عقلية الرئيس الذي يتطلع من الآن للرئاسة الثانية، سائراً على درب سلفه بيل كلينتون، ومتخذاً ذات الشعار «إنه الاقتصاد يا غبيّ».
يأمل ترمب في أن تكون أميركا أولاً، وهذا لا ولن يتوافر لها من دون اقتصاد قوي قادر على تحقيق درجات الإشباع للمواطنين الأميركيين المهمومين بالداخل الأميركي القارّي وغير المحمومين بصراعات العالم الخارجي.
قبيل توجهه للمشاركة في أعمال قمة الناتو عاود ترمب ترديد ما سبق له قوله: «سأبلغ أعضاء حلف الناتو بأنكم ستبدأون في دفع فواتيركم، والولايات المتحدة لن تعتني بكل شيء». تصريحات ترمب تقود الأوروبيين إلى التساؤل: «ما فائدة الحليف الأميركي الآن بالنسبة إلينا؟ وهل تكاليف تحالفه أعلى وأكثر غلواً من بلورة سياسة أوراسية تعاونية فاعلة وناضجة، وربما تتجاوز روسيا إلى الصين؟».
يأخذ ترمب على الأوروبيين عدة مآخذ، في المقدمة منها الميل الواضح إلى التعاطي مع الإيرانيين، وترجيح كفة بقاء الاتفاقية النووية، فيما يخاطب ميركل قائلاً: «نحن نحميكم، وهذا يعني الكثير بالنسبة إليكم... لكني لا أعرف مقدار الحماية التي نحصل عليها بحمايتكم».
يريد ترمب 2% من الناتج الإجمالي المحلي لكل دولة أوروبية مساهمة في نفقات الناتو، لكن يبدو أن الأوروبيين لديهم مسالك ومسارب أخرى بديلة ستظهر على الأرض عما قريب.
قبل أيام معدودات أظهر استطلاع للرأي أُجري بتكليف من الحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية، أن الأوروبيين في دول الناتو يتطلعون لأن تزيل الولايات المتحدة أسلحتها النووية المتمركزة على أراضيها...
إرهاصات نهايات زمن الناتو ربما كتبت سطورها الأولى في نهاية يونيو (حزيران) الماضي، في لوكمسبورغ خلال الاجتماع الذي جمع وزراء دفاع الدول التسع الأعضاء في الناتو (بلجيكا وألمانيا وبريطانيا والدنمارك وإسبانيا وهولندا والبرتغال وفرنسا وإستونيا) والذين وقّعوا اتفاقاً حول تشكيل قوة التدخل السريع الأوروبية.
هل نحن بالفعل أمام نواة جيش أوروبي جديد يكفي لمواجهة القضايا العارضة أمنياً لدول أوروبا، وبعيداً عن فكرة المواجهة المسلحة نووياً مع الروس، الذريعة الكبرى والأخطر للشريك الأميركي للبقاء سيد حلف الناتو؟
الثابت أن أهم ما في تلك البنية الجديدة لأوروبا الموحدة عسكرياً، الانفصال عن النظام العسكري لكتلة شمال الأطلسي.
لكنّ الأميركيين الذين يتطلعون إلى الحفاظ على تفوقهم المطلق عبر «القرن الأميركي» الذي رسم خطوطه وغزل خيوطه المحافظون الجدد، لن يتركوا أوروبا ويرحلوا إلى ما وراء الأطلسي، ذلك أنه حتى لو طلبت ألمانيا رسمياً من الأميركيين عودة وحداتهم العسكرية الموجودة على أراضيها منذ عام 1945، فإنهم سيمضون قدماً إلى بولندا، والتي ستقبل ولا شك أي وجود أميركي يدفع اقتصادها من جهة للأمام، ويسوق إليها حماية من الروس حسب تقديرهم، وإن كانت النيات الأميركية هي استخدامهم بيادق على رقعة الشطرنج في مواجهة بوتين.
قمة بروكسل لحلف الناتو، قد تضع نهاية لتحالف طال به الزمن، بينما تغيُّر الأوضاع الدولية، وتبدُّل معادلات السلم والحرب حول العالم، يجعلان القديم يتوارى على استحياء، فيما الجديد يجاهد ليولَد على الأرض.