حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

نزار قباني... شاغل الناس حياً وميتاً

أنا مضطر للمرة الثالثة إلى أن أواصل الحديث عن ملابسات صلاة الجنازة على جثمان الشاعر المثير نزار قباني، فكمية التزوير التي طارت بها الركبان وشرّقت بها الـ«سوشيال ميديا» وغرّبت، وكمية التساؤلات التي تلاحقني أينما حللت وارتحلت بعد مضي عشرين عاماً على وفاته، تفرض عليَّ إيضاح ملابساتها، وهذا ما فعلت جزءاً منه في مقال الثلاثاء الماضي.
لقد قلت فيه مختصراً إن هذا الإفك يتحمل وزره صحافي لندني فاقد للمصداقية كتب عن حدث لم يشهده، وصلاة جنازة لم يؤدها، وإن الجنازة صلى عليها آلاف المصلين وشهدها عدد من سفراء الدول العربية والإسلامية يتقدمهم السفير السعودي حينها الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، فمن الغباء المفرط أن يكون التزوير والإفك حول حدث شهوده ألوف البشر، ولقد همستُ حينها في أذن غازي القصيبي شاكياً من دعوى الصحافي اللندني بحدوث هرج ومرج وفوضى، ومحادثات مزعومة بيني وبين متطرفين لم تقع أبداً، فاستغرب رحمه الله وقال لي: لم يكن ثمة فوضى، فقد صليتُ في القاعة الرئيسية للمسجد، وحتى الذي حمل ميكرفوناً في القاعة الرئيسية للمسجد، وأعلن فيه عن اعتراضه على الصلاة على من تنسب له ما وصفها بالطوام في عطائه الشعري والنثري، اعترض بأدب وأبدى وجهة نظره، ولم يسب ولم يشتم.
وحتى غازي لم يسلم من رشق هذا التزوير والكذب، فقيل إنه تدخل للتسوية بين المركز والمتطرفين حتى لا تتصاعد المشكلة، وهذا أيضاً كذب جملةً وتفصيلاً.
هنا ترسخت قناعتي بأن تزوير التاريخ تحول في زمننا هذا إلى تزوير للواقع؛ الواقع الذي ما برح شهوده أحياء يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وهذا ما نلمسه مؤخراً، واشتدت وتيرة هذا التزوير والإفك في المنازلات الفكرية والسياسية والدينية والمذهبية... لم يسلم من التزوير طرف ولا جهة، وأصبح للمصداقية صوت خافت مبحوح يتوارى خجلاً بين ضجيج المزورين والأفاكين.
وحين بزغ نجم وسائل التواصل الاجتماعي ظننا أن هذا التواصل السريع سيُمسي أشبه بالدورة المكثفة في المصداقية والتحقق من الإشاعات والتزوير والكذب، لكنه للأسف تحول إلى مطية سهلة لترويج هذا التزوير والإفك وتبادل مفردات السباب والشتائم، ولم يسلم من أعراض هذه الأمراض حتى بعض المنتمين للنخب العربية من كتّاب ومثقفين وإعلاميين يستحلون ترويج الإشاعات الكاذبة، ويتلذذون بإلصاقها بالخصوم، ويستهلكون أسوأ ما في قاموس الشتائم والسباب من مفردات مخجلة.
وأصبح العدل في القول والمصداقية في الشهادة؛ سواء كانت لصديق أو خصم، من النصائح التي تتزين بها جدران البيوت والمكاتب والمعرفات دون وجودها على الأرض... حتى إن أحدهم وصف بدقة التناقض بين ما يتناقله الناس في الـ«سوشيال ميديا» وممارساتهم الواقعية، فقال ما معناه: «حين تقرأ ما يتداوله الناس في (التواصل الاجتماعي) من حكم ونصائح ومواعظ، تظن أنك في مجتمع الصحابة، وإذا نزلت لواقعهم أدركت أنك أقرب ما تكون لحياة صناديد مكة».