داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

تجارة التعذيب: شيء من هذا وشيء من ذاك

60 دولة فقط عدد الدول الأعضاء في «التحالف من أجل إنهاء التجارة في أدوات التعذيب». أي أن هناك 135 دولة أو أكثر لا علاقة لها بهذا التحالف الذي تَشَكّل بمبادرة من الاتحاد الأوروبي ومنغوليا. وهذه الدولة اليتيمة من خارج الاتحاد الأوروبي جمهورية غير ساحلية في آسيا الوسطى تحدها روسيا من الشمال، بينما تحدها الصين جنوباً وشرقاً وغرباً، وسكانها من المغول، وأشهر قادتها التاريخيين جنكيز خان، وتعطل الدولة في عيد ميلاده يوم 14 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام باعتباره مؤسس أكبر إمبراطورية، مساحة، في التاريخ في القرن الثالث عشر الميلادي. ربما كانت مبادرة منغوليا لمشاركة الاتحاد الأوروبي في تأسيس هذا التحالف الدولي هي نوع من التكفير عما فعله ذلك الإمبراطور من مجازر كبيرة في الدول التي احتلتها قواته، وارتكبت فيها مذابح ضد المسلمين. وبلغ من قوة هذه الإمبراطورية أنها كانت تضم، بالإضافة إلى منغوليا، الصين وفيتنام وكوريا وتايلاند وأجزاء من سيبيريا ولاوس وميانمار ونيبال وبوتان! ووصلت قواتها إلى بغداد في عام 1258، وكتبت نهاية الدولة العباسية وغيرت لون مياه نهر دجلة إلى اللون الأحمر لكثرة الدماء التي سالت.
الموضوع ليس عن منغوليا، ولكن عن تجارة أدوات التعذيب. والمقصود بهذه الأدوات الهراوات ذات المسامير المعدنية وأحزمة الصدمات الكهربائية والصعق الكهربائي، وأنظمة الحقن القسري والمواد الكيميائية المستخدمة في عمليات إعدام الأشخاص. وكثير من الدول لها أدوات التعذيب «الوطنية» ولا تحتاج إلى استيراد مثيلاتها من الخارج، وهي معروفة عالمياً بالاكتفاء الذاتي في مجال هذه الأدوات، بل وتبدع كل يوم في اختراع أو ابتكار آلات وأساليب جديدة، وفي إمكانها تصديرها لأعضاء منظمتي «اليونيسكو» المتخصصة بالثقافات الإنسانية و«اليونيسيف» المتخصصة بالطفولة، ولا بأس في عرض بعضها في معارض الصناعات الحديثة في دول المعمورة والمخروبة.
ودولة عدوانية مثل إيران بارعة في ابتكار وتصنيع أسلحة تعذيب السجناء والمعتقلين، وهي الدولة الوحيدة التي تُصدّر هذه المعدات إلى العراق وسوريا واليمن عن طريق الميليشيات التابعة للحرس الثوري والأحزاب الموالية لولاية الفقيه. ولا تكتفي السجون والمعتقلات الإيرانية بتعذيب المعتقلين وانتزاع الاعترافات منهم بمختلف صنوف التعذيب الدموية، وإنما تمتد ذراعها إلى المرضى من المعتقلين بحرمانهم من الرعاية الطبية الكافية ما يجعلهم تحت خطر الموت أو الإصابة بعاهة مستديمة. وقرأنا أن فيليب لوثر مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية أعلن أن نظام الملالي «يحتجز في العادة الصحة كرهينة بتجاهل الاحتياجات الطبية للنزلاء وحرمانهم من الأدوية والرعاية بقسوة»، كما حدث مع الصحافي الإيراني علي رضا رجائي الذي تركوه دون علاج من سرطان الفك إلى أن تدهورت حالته الصحية، واضطروا إلى استئصال نصف وجهه الأيمن بعد انفجار عينه اليمنى! وهذه الحالة هي ظاهرة عامة في كل سجون المعتقلين السياسيين الإيرانيين، حيث تتلاعب السلطات بصحة السجناء وحياتهم بإهمال احتياجاتهم الطبية.
وفي تقرير لمنظمة العفو الدولية قبل عامين، حذرت من أن المعتقلين السياسيين في إيران يتعرضون لخطر الموت أو الإصابة بعاهات مستديمة، أو غير ذلك من الأضرار الصحية التي لا يمكن تداركها. والأدهى من ذلك ما أكده بعض السجناء لمنظمة العفو الدولية من أن أطباء السجون «كانوا متواطئين في الانتهاكات»، بالتقليل من شأن مشاكلهم الصحية أو تجاهلها، أو سوء تشخيصهم للأمراض. واعتادت السلطات الإيرانية نفي مثل هذه الاتهامات، وقامت في يوليو (تموز) من العام الماضي بتنظيم زيارة دعائية لممثلي سفارات 40 دولة في إيران لسجن «إيفين» في طهران الذي يحتل المركز الأول بين أكبر سجون هذه الدولة. لكن هؤلاء الدبلوماسيين يعلمون مقدماً أن من السهل تحويل بعض أفظع السجون خلال 24 ساعة إلى منتجع يفوق نظافة وبهجة وسعادة أشهر المزارات السياحية في العالم!
ويروي الأسرى العراقيون الذين أسرتهم إيران خلال الحرب العراقية - الإيرانية في الثمانينات من القرن الماضي قصصاً مرعبة عما كان يدور خلف أسلاك وجدران المعتقلات الرهيبة. وكان بعض العراقيين من عملاء إيران يسوم الأسرى سوء العذاب، ثم دارت الأيام وعاد هذا البعض إلى العراق وشكل ميليشيات برعاية إيرانية مكشوفة تتولى في الداخل ما بدأت به في الخارج من انتهاكات لحقوق الإنسان وتعذيب واغتيالات، إلى أن صارت اليوم قاب قوسين أو أدنى من كراسي الحكم المطلق. هذه الميليشيات تشرف على معتقلات فيها كل أدوات التعذيب الرهيبة المستوردة من إيران. وكان النظام الإيراني «كريماً» في إيفاد خبراء التعذيب في الحرس الثوري لانتزاع الاعترافات الوهمية من المعتقلين، وينتهي الأمر بإطلاقات في الرأس أو على أعمدة المشانق.
التعذيب «ثقافة» موروثة في كثير من دول العالم، وما شاهدناه من أفلام سينمائية عن مجازر المعتقلات في دول أميركا اللاتينية ثم في أشهر معتقل في العالم «غوانتنامو»، والسجن الرهيب في العراق «أبو غريب» وقصص المعتقلات الإسرائيلية، تقدم كلها خلاصة هذه «الثقافة». وهي تقوم على «التعذيب العقلي» وهو أسوأ أنواع التعذيب وأكثر تدميراً للنفوس من التعذيب الجسدي، وشاهدت بعضه في سجن «حاكمية التحقيق» العائد للمخابرات العراقية الكائن في منطقة راقية في قلب بغداد. وبمجرد أن عصبوا العينين، وربطوا اليدين خلف ظهري، أدركت أنني ذاهب إلى المجهول. هذا هو الانكسار الأول، لأنني لم أرتكب جريمة يعاقب عليها القانون، ولا شاركت في مؤامرة ولا كنت جاسوساً ولا معارضاً. صحيح أنني كنت «أعترض» في مقالاتي على بعض ما يجري في الحياة العامة، لكني لم أكن «معارضاً». وهناك فرق بين الموقفين. وكان ممكناً منعي من الكتابة وينتهي الموضوع. لكن صاحب القرار أراد «كسري» من الداخل، وهو ما يسمى بلغة المعتقلات «التعذيب العقلي». إلا أنني حين أقارن ما حدث معي بما يحدث اليوم في المعتقلات السرية التابعة للدولة والميليشيات الإيرانية داخل العراق، أشعر أنني كنت أمضي ثلاثة أشهر انفرادية في منتجع سويسري!
حين قرأت عن اجتماع، مؤخراً، في العاصمة البلجيكية بروكسل لما يسمى بـ«التحالف الدولي من أجل إنهاء التجارة في أدوات التعذيب»، أدركت أن هذا التحالف ليس ضد «التعذيب» أساساً، وإنما ضد «تجارة أدوات التعذيب»! ومعظم الدول التي لم تحضر هذا الاجتماع، وعددها 135 دولة ليست ضد التعذيب، ولا تعترض على استيراد وتصدير تجارة أدوات التعذيب. حتى منظمة العفو الدولية «أمنستي» والبرلمان الأوروبي لا يعارضان التعذيب، وإنما يعارضان تجارة أدوات التعذيب وطرق تنفيذ الإعدامات. ولذلك أقول لنفسي: من الذي حشرك في هذا الموضوع؟