الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

حكومة لبنان تتحول إلى كانتونات للطوائف

لا تمثل الأزمة الحالية في لبنان، المتصلة بتعقيدات تشكيل الحكومة، مشكلة سياسية فقط. إنها في اعتقادي أبعد من ذلك وأخطر. فالجدل الدائر حول الحصص الطائفية، وحول من هو صاحب الحق الأكبر في تمثيل طائفته داخل الحكومة، يؤكد وجود مشكلة وطنية بامتياز.
الصورة عن لبنان، التي تظهر اليوم أمام أي مراقب محايد، هي صورة غيتوات، أو كانتونات طائفية، تسعى كل منها إلى الاستيلاء على حصتها في الحكم، وليست صورة وطن واحد تسعى قياداته إلى تشكيل حكومة تخدم الناس وترعى مصالحهم، في ظل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، التي يحذر كثير من الخبراء من تداعياتها على قدرة لبنان على الوفاء بالتزاماته المالية في الداخل، وعلى تسديد الديون المترتبة عليه للخارج، والتي يقال إنها ستقترب مع نهاية هذا العام من رقم مخيف، يصل إلى مائة مليار دولار.
لم يكن لبنان دائماً على هذه الصورة الكالحة. وعلى ما أذكر، فهذه من المرات النادرة في تاريخ هذا البلد التي تنكشف فيها عورات نظامه الطائفي بهذا الشكل الفاضح. لا حديث اليوم عن مؤهلات وكفاءات، ولا عمّن يستحقون تولي الحقائب الوزارية لإدارة شؤون الناس، نتيجة خبرة ودراية. لا تداول في أسماء أي من المرشحين لتولي الحقائب، لا في الصحف ولا على الشاشات. لا حديث إلا عن أعداد وأرقام وحصص للطوائف: للسنة كذا، وللموارنة وللدروز وللشيعة... إلى آخر التركيبة. ويقولون لك: هذا هو لبنان، وهؤلاء هم اللبنانيون. هم الذين اختاروا هذا المجلس. ومن هذا المجلس تنبثق التشكيلة الوزارية التي يجري التداول فيها.
لا يا سادة. هذا ليس لبنان. وهؤلاء ليسوا كل اللبنانيين. 49 في المائة من اللبنانيين فقط اختاروا نواب هذا المجلس. والباقون، أي الأكثرية، إما اعتكفوا لأنهم لم يجدوا من يستحق التصويت له من المرشحين، وإما أنهم يئسوا من قدرة العملية السياسية على إحداث أي تغيير. بالتالي ليس صحيحاً الزعم بأن التمثيل النيابي الحالي يعكس كل القاعدة الشعبية. وهذا يجب أن يطرح تساؤلات كثيرة عمّا تعنيه في هذه الحال صفة «المسيحي القوي» أو «السنّي القوي» أو «الدرزي القوي»، عندما تقوم هذه «القوة» على تصويت أقل من نصف من يفترض أنها تمثلهم. وإذ نستثني هنا «الشيعي القوي»، فلأننا نعرف المصدر الحقيقي لهذه القوة، أي السلاح الذي فرض نفسه على كل المناطق ذات الأكثرية الشيعية، وصارت الأصوات والنسب والمرشحون والنواب المنتخبون في هذه المناطق تحصيل حاصل.
هذا عن اللبنانيين. أما عن لبنان فصحيح أن التوازن الطائفي فيه كان هو الذي يتحكم دائماً بالتركيبة الحكومية؛ لكننا لم نسمع يوماً أن هناك وزارات مخصصة لطوائف بعينها، ولا أن مجلس الوزراء يفترض أن يتحول إلى مجلس نواب مصغر، حيث تتمثل الكتل (أي الطوائف) بنسبة ما حصلت عليه من مقاعد نيابية. لا اتفاق الطائف أقر بذلك، ولا العرف السابق يقضي به. على العكس، ما أقره اتفاق الطائف وصار دستوراً فيما بعد، هو حضّ المشرّعين على أخذ البلاد في طريق غير طائفي من خلال التمهيد لخطوات تحدّ ثم تلغي المحاصصة الطائفية، ولا تبقيها إلا في الرئاسات الثلاث الموزعة طائفياً وفي الوظائف الكبرى، من دون أن تحصر أياً منها بطائفة بعينها. المقصود هنا أن الهدف كان اعتماد معيار الكفاءة في الاختيار وليس فقط ما تذكره الهوية الشخصية عن طائفة من يسعى إلى منصب معين أو حقيبة حكومية.
هذا الانكسار، أو التراجع إلى الوراء، في مسيرة الانتقال من بلد يتشكل من كانتونات للطوائف إلى بلد يضم مواطنين، لتصح فيه صفة وطن، حصل مع بروز شعار «المسيحي القوي» للتمهيد لإيصال الرئيس ميشال عون إلى مقعد الرئاسة الذي كان يطمح للوصول إليه. لم يكن هذا الشعار مقياساً لاختيار رئيس للجمهورية في أي يوم في لبنان. بشارة الخوري، أول رؤساء لبنان بعد الاستقلال، كان على خصومة مع الميول والمشاعر المسيحية في ذلك الحين، التي كانت تميل إلى الدفاع عن بقاء الانتداب الفرنسي. ولم يتم التشكيك في أهليته للرئاسة بسبب معاناته من «فقر دم مسيحي». كذلك كان الأمر مع فؤاد شهاب، الذي كان يوصف بـ«مرشح المسلمين»، والذي يذكر اللبنانيون اليوم نظافة كفّه ودوره الرائد في بناء دولة المؤسسات.
قبل «المسيحي القوي» كان «الشيعي القوي» قد أفرغ الساحة الشيعية من أي منافسة جدية، وعقد حلفاً ثنائياً مع الرئيس نبيه بري وحركة «أمل»، يتقاسمان بموجبه ما يحلو لكل منهما من غنائم، بعد أن أثبتت مواجهاتهما السابقة أنها سوف تؤدي إلى خسائر للطرفين.
انسحب إذن شعار «الشيعي القوي» إلى ساحات الطوائف الأخرى. وإذا كان «الشيعي القوي» قد استقوى بالسلاح كما قلنا، مستغلاً في الوقت ذاته شعارات «المقاومة والتحرير»، فقد احتاج «المسيحي القوي» ليصل إلى عملية جراحية من نوع آخر. من هنا كان تعطيل المجلس النيابي لأكثر من سنتين، كما نذكر، ليفرض على النواب وعلى اللبنانيين انتخاب الرئيس ميشال عون. قبل ذلك، وفي ظل المناخ التحريضي الطائفي نفسه، طرح «التيار الوطني الحر» ودعمه «حزب الله» في ذلك، مشروع قانون للانتخابات كان بمثابة فضيحة من الوزن الثقيل، إذ كان يقضي بأن تختار كل طائفة النواب الذين يمثلونها. بحسب ذلك المشروع، لم يكن يحق لمواطن سني أو شيعي مثلاً أن يختار نائباً مارونياً، والعكس. وعندما فاحت الرائحة الطائفية والمذهبية لهذا القانون، اضطروا إلى جمع أوراقه في الأدراج، إلى أن جاء القانون الذي جرت على أساسه الانتخابات الأخيرة، والذي كان خليطاً من القانون الأكثري والنسبي، وفرض على الناخب في الدائرة الصغرى أن يختار مرشحه المفضل من دائرته، وبالتالي كما في معظم الحالات، من طائفته، فعدنا إلى حيث كنا في القانون السابق الطيب الذكر.
ليس هذا هو لبنان كما نذكره، ولا هو لبنان كما تريده أكثرية اللبنانيين؛ لكن المناخ الطائفي الذي يسيطر الآن على التكتلات السياسية، هو الذي يجعل قياداتها تلجأ إلى التحريض المذهبي والطائفي لحماية مصالحها، غير عابئة بانعكاسات ذلك على وحدة البلد وعلى اللحمة بين مواطنيه. هذه اللحمة التي بزوالها يصبح مصير لبنان الذي كنا نعرفه في مهب الريح.