سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الحل الودي

كنت أنزل خلال السفر إلى القاهرة في فندق «عمر الخيام - الزمالك» ليس لأن الجزء القديم منه كان قصراً منيفاً في سالف الأوان، بل لأن أسعاره، آنذاك، كانت تتناسب مع ذي الدخل المحدود. ولم أكن قد بلغت من العمر الذوق والمعرفة والمقارنة التي تمكنني من التمتع بقصر حط به الدهر، لأن المتعة أيام الشباب لا ترتبط كثيراً بالسلالم الرخامية العتيقة. والأعذب منها كانت رفقة عاملة المصعد في الهيلتون. مثلاً.
عندما أصبحنا في سن تقدير السقوف العالية المكرزة، والسلالم الرخامية الهائلة، عرفت أن الفندق كان قصراً يملكه ثري من لبنان، وقد اشتراه من الخديوي إسماعيل، الذي كان بناه خصيصاً لإقامة الإمبراطورة الفرنسية أوجيني خلال احتفالات افتتاح قناة السويس.
كان لبنان تحت الانتداب الفرنسي (أواخر العشرينات)، وبالتالي، كان على جورج لطف الله أن يسافر إلى بيروت عن طريق باريس حيث وزع كمية الجنيهات. ووصل إلى بيروت فوجدها كلها في استقباله. واستأجر قصراً فخماً في حي السراسقة الأرستقراطي ملأه بالخدم والحرس والرياش والذهب. ورث القصر وثروة طائلة نجل الشاري، جورج لطف الله. وتحلق من حوله اللبنانيون في مصر والقادمون من لبنان ضيوفاً على حياة القصور. وذات مأدبة، سأله الصحافي أنطون الجميل، لاحقاً رئيس تحرير «الأهرام»، لماذا لا يستكمل هذا الجاه برئاسة الجمهورية في لبنان، ومن ثم يعلنها إمارة ومملكة. كان إسكندر الرياشي صاحب جريدة «الصحافي التائه» من أبرز وأظرف صحافيّي المرحلة. وكان موظفاً في المفوضية السامية الفرنسية، مكلفاً المهام الصعبة غير المستحيلة، أي التي يمكن شراؤها بالذهب. وقد عثر الرياشي في لطف الله على ثري يريد أن يدفع، لا أن يقبض. وبلا حساب. ويروي في كتابه «قبل وبعد» أن أحوال الصحافة كلها تحسنت بعودة مهاجر مصر، وليس «الصحافي التائه» وحدها. وكذلك، أحوال عدد كبير من السياسيين والتجار والوجهاء. ولم يبقَ سوى إرضاء رئيس الوزراء خير الدين الأحدب، والمفوض السامي الفرنسي. وبعث جورج لطف الله مع الرياشي بهدية قدرها 30 ألف جنيه مصري إلى الأحدب. لكن الأحدب رفض، وأصر على الرفض رغم كل محاولات الإقناع. أدرك الرياشي ساعتها أن البلد سوف يخسر مورداً «محرزاً». وأدرك لطف الله أن مواطنيه بالغوا في ري أحلامه وتجفيف مواده، فحمل نفسه وعاد إلى مصر، هذه المرة بطريق الإسكندرية. وأقام الدعوى على بعض المستفيدين مطالباً باستعادة المال. ولم يكن قد عرف بعد «الكازينو» الشهير. لكن الرياشي كان قادراً على تحويل أي سهرة يذهب إليها إلى «مقمرة»، فمن أين يسدد المال المطلوب؟ أخيراً، أقنع لطف الله بأن ينسى الرئاسة والإمارة والمملكة، ومعها ماله!