فاي فلام
TT

الجليد القطبي والمدونة الحية لتاريخ البشر

بحلول فجر القرن العشرين، عندما وطئ البشر لأول مرة بأقدامهم القمة الجليدية البكر في القارة القطبية الجنوبية، أذهلتهم معدلات التلوث هناك. فلقد تراكمت آثار الرصاص وغيره من المعادن الثقيلة في قلب الجليد في عام 1888 وما بعده، تاركة سجلاً كاملاً للثورة الصناعية. وهو ليس سجلاً كافياً رغم ذلك، بل كان بمثابة إدارة مفتاح التشغيل، كما قال جوزيف ماكونيل، خبير علوم المياه والجليد لدى معهد أبحاث الصحراء في نيفادا.
ويستقر الثلج في طبقات على القمم الجليدية في كل من غرينلاند والقارة القطبية الجنوبية، كمثل الرواسب، مسجلاً ما كان يجري في الغلاف الجوي، عاماً تلو عام. ومع الحفر في قلب الجليد لمئات الأقدام عمقاً، يمكن للعلماء قراءة التاريخ البيئي الذي يعود إلى آلاف السنين. واليوم، ومع القياسات الحديثة والدقيقة، أعلن البروفيسور ماكونيل وزملاؤه أنه بإمكانهم استخدام جليد غرينلاند في قراءة طبقات تراكمات الرصاص الناجمة عن الإمبراطورية الرومانية.
وبعد مرور آلاف السنين، وبعد رحيل حضارتنا تماماً عن وجه المعمورة، وانتشار الرماد والغبار خاصتنا حول أصقاع الأرض، يمكن للعلماء والمؤرخين قراءة الكثير عن حضارتنا من خلال الحفر في الطبقات الجليدية نفسها. وقد يستخدمون السجلات المكتوبة أيضاً، ولكن البقايا المادية تحمل نظرة مغايرة تماماً للتاريخ، وهي النظرة التي تركز على التغييرات الواقعة مع مرور الزمن. وكما هو الحال مع الحضارات الأخرى المنقرضة، ما سوف نخلفه وراءنا سوف يكشف الكثير والكثير عن التاريخ الذي نكتبه بأنفسنا.
وذلك هو السبب وراء حماسة المؤرخين المتقدة للمقدرة الجديدة على قراءة التاريخ القديم عبر طبقات الجليد. وهم يقولون إن أكثر رواسب الرصاص المتبقية من العصر الروماني خرجت في أثناء عملية استخراج الفضة من المعدن الخام، لاستخدامها في سك العملات المعدنية. وتتطابق فترة التلوث الرصاصي الثقيل مع الفترات التي صنع فيها الرومان العملات الفضية الكثيرة، وهي تتطابق بدورها مع فترات القوة الاقتصادية.
ونشأت فكرة البحث عن انبعاثات الرصاص المدفون في الجليد لدى عالم الفيزياء الجيولوجية كلير باترسون. ولقد أصبح مهتماً بتلوث الرصاص في أثناء محاولته حساب عمر الأرض باستخدام ساعة طبيعية تستند إلى انحلال اليورانيوم إلى رصاص. وفي قصة ظهرت في كتاب بعنوان «تاريخ موجز لكل شيء»، لمؤلفه بيل برايسون، واجهت كلير باترسون عقبة عندما اكتشف وجود تلوث كبير بالرصاص في مختبره، وعلى شخصه، وعلى زملائه، وفي كل مكان تقريباً.
وفي عام 1953، وبعد جهد هائل لتطهير المختبر، قام باترسون بحساب صحيح لعمر الأرض يقدر بـ4.55 مليار سنة، وبعد ذلك شرع في التحقق من مصدر الرصاص الإضافي، وأدرك أنه لا بد أن يأتي من الرصاص الصناعي، ولا سيما، الغازولين الرصاصي.
ولإقناع الحكومة بالنظر في شأن تنظيم استخدام الرصاص، كان لزاماً على باترسون أن يثبت أن الانبعاثات جلبت مستويات مرتفعة للغاية من الخلفية الطبيعية. ولكي يفعل ذلك، عثر على بقع نائية في غرينلاند والقارة القطبية الجنوبية، ثم حفر لأعماق كبيرة في الجليد، وعثر على مستويات من الرصاص تضخمت لما بين 200 إلى 300 مرة مما كانت أصلاً عليه في عام 1700.
وكشف هذا العمل عن قمم أصغر من مستويات الرصاص في غرينلاند، بما في ذلك قمة تتطابق مع الفترة المقابلة لحقبة الإمبراطورية الرومانية. وكانت المستويات لا تتجاوز 1/ 50 عما كانت عليه خلال القرن العشرين، ولكن صعود الرومان وهبوطهم كان مسجلاً هناك بكل وضوح.
وطبق أعضاء فريق البروفسور ماكونيل قياسات أكثر دقة مما كان متاحاً في زمن البروفسور باترسون، وللمرة الأولى ظهر لدينا سجل مفصل، وبدت الانبعاثات الثقيلة مسجلة لفترات الازدهار الاقتصادي، مثل الفترة السلمية المعروفة باسم «باكس رومانا»، من عام 27 قبل الميلاد حتى عام 180 ميلادية. ثم انخفضت الانبعاثات في وقت لاحق، خلال كل طاعون أو وباء من الأوبئة المتفشية. واستخدم الباحثون جزئيات دليلية مستمدة من الانفجارات البركانية، كعلامات زمنية لمطابقة الجليد مع التقويم. وقال البروفسور ماكونيل إن الباحثين يمكنهم ربط الأساس الجليدي في الوقت المناسب ضمن الدقة الزمنية لعام أو عامين، حتى وإن عاد بهم الزمن لثلاثة آلاف عام إلى الوراء.
يقول جوزيف مانينغ، المؤرخ من جامعة ييل الذي شارك البروفسور ماكونيل في أعمال جليدية أخرى: «لا يمكن اعتباره نسخة احتياطية من التاريخ المعروف، بل مجرد نوع جديد من أنواع التاريخ». وتخبرنا معلومات الأساس الجليدي عن التغيرات التي جرت مع مرور الزمن، وقد تساعد المؤرخين في فهم أفضل لأسباب تغير الأمور عبر التاريخ.
ويرى البروفسور مانينغ أن التاريخ صار أكثر تكاملاً مع العلم، وأصبح أكثر ممارسة كعلم من العلوم الطبيعية. وصار العلماء أكثر تقديراً لأن الأحداث السياسية، والقيادة، والنصر في الحروب، تنوء جميعها ضمن تأثيرات قوية بالقدر نفسه من تأثيرات موجات الحرارة، ونوبات البرودة، والجفاف، والتغيرات البيئية الأخرى.
هل يتعلم الناس من التاريخ، خصوصاً مع انسحابه على مستويات التلوث؟ يتحسن إدراك العلماء في تحديد المواد الخطرة، كما قال لويد تيبر، الطبيب لدى جامعة بنسلفانيا الذي لديه مؤلفات حول الرصاص والزئبق والبريليوم، لمجلة علم الآثار الصناعية. غير أن قدرات العلماء محدودة. ولنفكر في نقطة الارتكاز، كما قال دكتور تيبر، مع الثروة الوطنية والراحة الشخصية من ناحية، وتكاليف الرعاية الصحية من ناحية أخرى. ولا يعمل العلماء على تحديد أو ضبط نقاط الارتكاز، كما أضاف، بل تحددها المصالح السياسية، كما هو الحال على الدوام.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»