لا أزال أحمل في ذهني ذكريات حية حول طريق موحل في مساء أحد أيام ديسمبر (كانون الأول) عام 1995، وكنت أتبادل أطراف الحديث مع صديقين أحدهما بوسني مسلم والآخر بوسني صربي. كنا جميعاً داخل مدينة توزلا البوسنية، نعمل ضمن طاقم محطة «سي إن إن» في تغطية الحرب التي كانت قد حصدت بالفعل 100 ألف شخص وشردت الملايين، وذلك في خضم ما يعتبر الصراع الأسوأ على مستوى أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وكانت الأطراف المتحاربة قد وقّعت لتوها اتفاق دايتون بوساطة أميركية، والذي رمى لوضع نهاية لثلاث سنوات من القتال.
وقد سألتهما حول ما إذا كانا يعتقدان أن السلام سوف يستمر، وقد جفل الاثنان تقريباً لدى سماعهما السؤال. ومع هذا، اتفقا على أن كل الأشخاص - من مسلمين وصرب وكروات داخل البوسنة - سئموا القتال، وأن هذا الأمر بمفرده كفيل باستمرار الاتفاق.
بعد جيل، ثمة مؤشرات مثيرة للقلق توحي بأن السلام الذي جرى التوصل إليه بمشقة بالغة بدأ في التداعي. اليوم، يشكك سياسيون قوميون علانية في إطار عمل «دايتون»، والذي خلق «كيانات» شبه مستقلة داخل البوسنة والهرسك: جمهورية يديرها الصرب واتحاد فيدرالي من الكروات والمسلمين.
الملاحظ في هذا الوقت، أن ثمة غلياناً في المشاعر في خضم موجة أوسع من التوجهات القومية عبر القارة بأسرها، والتي تتزامن مع حملة روسية لتقويض الحكومات الصديقة للغرب. فيما مضى، جابه الغرب صعوبة في وضع نهاية للقتال، وتخلق الظروف القائمة اليوم - في وقت كانت صفوف الغرب أقل وحدة والقوميون الشعبويون يحصدون مكاسب داخل الكثير من الدول - صعوبة أكبر أمام أي محاولة لاستعادة السلام حال انهيار الاتفاق. ويتحتم على أوروبا والولايات المتحدة، اللذين تتعرض أنظارهما حالياً لتشتيت جراء مشكلات أخرى، التحرك سريعاً للحيلولة دون انحراف البوسنة عن مسار السلام الراهن.
في قلب الفوضى الحالية يقف ميلوراد دوديك، الرئيس السابق المعتدل للمنطقة الصربية ذات الحكم الذاتي والتي أطلقت على نفسها جمهورية صرب البوسنة - الاسم الذي اختاره رادوفان كارادزيتش عام 1992، والذي أدين لاحقاً بقيادة حملة إبادة جماعية ضد مسلمي البوسنة.
كان دوديك قد أعلن رغبته في الانفصال عن البوسنة وربما الانضمام إلى صربيا. كما أبدى دعمه للكروات الذين أعلنوا رغبتهم في بناء دولة خاصة بهم. وأجاب الزعيم البوسني المسلم بكر عزت بيغوفيتش بقوله إنه من غير الممكن ظهور طرف ثالث دون إشعال حرب.
كان دوديك في حالة تحد للحكومة المركزية وعمد إلى بناء علاقات أوثق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يبدو حريصاً على استغلال مشاعر السخط في نفوس الصرب من سكان المنطقة. في الوقت الراهن، أرجأ دوديك عقد استفتاء عام حول الاستقلال، لكن حتى بعد إصدار محكمة بوسنية كبرى حكماً بحظر عقد مثل هذا الاستفتاء، أقدم دوديك على إجراء استفتاء اختباري للاحتفال إجازة وطنية في 9 يناير (كانون الثاني)، اليوم الذي أعلن فيه كارادزيتش عام 1992 قيام دولة مستقلة لصرب البوسنة، الأمر الذي أدى لاشتعال الحرب. وبعد تحدي دوديك لقرار المحكمة، فرضت ضده الولايات المتحدة عقوبات. إلا أن هذا لم يردعه. في 9 يناير هذا العام، جرى تنظيم مسيرة في الشوارع لقوة من الشرطة ذات صبغة عسكرية واضحة، ويحمل أفرادها أسلحة أوتوماتيكية، بجانب مشاركة مجموعة من «نايت وولفز»، عصابة روسية مقربة من بوتين جرى نشرها في القرم وأوكرانيا إلى جانب القوات الروسية. أيضاً، شاركت جماعة شبه مسلحة تدعى «سربسكا كاست» أو «الشرف الصربي»، يقول وزير أمن البوسنة إنه يجري تدريبها على أيدي روس. وفي وسط الحشود، وقف وزيرا الداخلية والدفاع في صربيا يشاهدان بترحيب.
من ناحية أخرى، ثمة قلق متنام لدى قيادات بوسنية إزاء مخزونات الأسلحة التي يكدسها الصرب الذين حصلوا مؤخراً على 2500 بندقية آلية إضافية، من المفترض أنها من أجل قوة الشرطة. ورغم أن صفقة الشراء قانونية، فإن الكمية غير متناسبة إطلاقاً مع احتياجات قوات شرطة محلية.
وخلال الفترة الأخيرة، تزايد معدل سفر دوديك لروسيا وكذلك زيارات مبعوثين روس لصرب البوسنة. وخلال واحدة من زيارات المبعوثين الروس في الفترة الأخيرة، أعلن دوديك: «قدم أصدقاء مخلصون مثل الاتحاد الروسي والرئيس فلاديمير بوتين لنا الدعم في تحديد أهداف واضحة، واستعادة ثقتنا بأنفسنا والقتال من أجل حقوقنا الأصيلة».
جدير بالذكر أن روسيا ترغب من صرب البوسنة إعاقة أي تحركات نحو انضمام بلادهم لحلف «الناتو». كما أن الكرملين رأى أن التجاهل المستمر من قبل الغرب جعل البلاد أرضاً خصبة لتنفيذ استراتيجيته المناهضة للغرب.
في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، تعقد البوسنة انتخابات يترشح خلالها دوديك على مقعد من المقاعد الرئاسية الثلاثة. ويقول دوديك إنه يسعى نحو الاستقلال، في الوقت الذي يخالج القلق أبناء البوسنة من أن تكون بلادهم في طريقها نحو الحرب.
ومن أجل الحيلولة دون وقوع كارثة جديدة في هذا الجزء الهش من العالم، يتعين على الاتحاد الأوروبي و«الناتو» والولايات المتحدة العمل دون تأخير على تعزيز تعاونهم الدبلوماسي مع البلاد وتعزيز وجودهم هناك عبر مفاوضين متمرسين وإحياء مهام المندوب السامي الذي كان دوره يتمحور حول مراقبة تنفيذ اتفاق دايتون.
موجز القول أن البوسنة بحاجة لاهتمام عاجل من جانب الدول الديمقراطية. وإلا فإن العقود التي ساد خلالها اتفاق دايتون لن تكون سوى فترة استراحة بين حروب البلقان.
* خدمة «واشنطن بوست»
6:56 دقيقة
TT
هل تتراجع البوسنة نحو الأيام الحالكة للتسعينات؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة