هاشــم صالــح
كاتب وباحث ومترجم سوري، يهتم بقضايا التجديد الدّيني ونقد الأصولية ويناقش قضايا الحداثة وما بعدها.
TT

مانديلا العربي لن يظهر غدا!

أعتقد شخصيا أن السمة الأساسية التي تميز الرجال العظام عن سواهم هي استعدادهم لأن يموتوا من أجل قضيتهم: قضية الحق والعدل. عندما نلقي نظرة سريعة على التاريخ البشري من أوله إلى آخره نلاحظ ذلك واضحا جليا. هذا لا يعني أن التاريخ مليء بهؤلاء الأشخاص، أو أنهم يولدون كل يوم! فالواقع أنهم أقل القليل ولا يجود بهم الزمان إلا نادرا. ولكن عندما يجود بهم كم يتوهج العالم ويصبح أكبر وأجمل! من هذه النوعية كان نيلسون مانديلا. برحيله أخيرا انطفأ هذا الجنس من الرجال إلى أجل غير مسمى. لا أعتقد أنه يوجد حاليا شخص واحد يستطيع القول إنه يرتفع إلى قامة هذا المحرر الكبير للبشرية. حتى القائد البوذي الدالاي لاما الذي يشبهه إلى حد كبير من الناحية الأخلاقية، لا يستطيع أن يوازيه تماما. لماذا؟ لأنه لم يمض 27 عاما في زنزانة سجن صغيرة. لأنه لم يدفع الثمن باهظا ولم يحترق في أتون المعاناة كما حصل لمانديلا. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل. ينبغي أن تعرض نفسك للخطر الأعظم لكي يسجل اسمك على صفحة التاريخ. العملية ليست سهلة وإلا لكان معظم الناس قد أصبحوا رجالا عظاما. لولا أن سقراط تجرع السم من أجل أفكاره هل كان اسمه سيلمع في ذاكرة البشرية حتى الآن؟ وقل الأمر ذاته عن عظماء العصور الحديثة كجان جاك روسو أو أبراهام لنكولن أو مارتن لوثر كينغ... إلخ، هؤلاء الأشخاص العظام يشتركون في صفة واحدة: حب الحقيقة ودفع الثمن الباهظ. ومن يحب الحقيقة والعدل والحرية ينبغي أن يوطن نفسه لمواجهة المشكلات والمخاطر.
أصعب شيء في العالم هو الظلم والقهر، ولكن الكثيرين يتعودون عليه ويسكتون خوفا من دفع الثمن. وحدهم حفنة من الرجال على مدار التاريخ يقولون: لا، من بينهم نيلسون مانديلا، كان بإمكانه بعد أن أصبح محاميا مرموقا أن يكسب رزقه بسهولة، بل وأن يعيش ميسورا مع عائلته وأطفاله، ولكنه ضحى بكل ذلك من أجل قضية تتجاوزه ولا يستطيع منها فكاكا أو عنها تخليا. إنها أكبر منه بكل بساطة وقد تملكته بكل جوارحه وتحولت إلى قضية مقدسة. نعم الحق مقدس، وكذلك العدل. كان جان جاك روسو يصرخ في شوارع باريس مستنجدا: يا إله الحق والعدل! ينبغي العلم بأن نظام الأبارتايد أو التمييز العنصري كان بشعا وإجراميا إلى أقصى الحدود. حتى دورات المياه التي يدخلها الأبيض كان ممنوعا أن يدخلها الأسود! وقس على ذلك الحافلات والمطاعم والمدارس والجامعات والمستشفيات... إلخ، قهر ما بعده قهر. إذلال ما بعده إذلال. لا ينبغي احتقار الإنسان في كرامته أو محاسبته على شيء لا حيلة له به: مكان ولادته أو لون وجهه وشعره! لا أحد يختار مكان ولادته. لا أحد يختار أبويه أسودين أو أبيضين، مسيحيين أو مسلمين. وحدها المجتمعات العنصرية والطائفية المتخلفة، مجتمعات ما قبل الحداثة، لا تزال تحاسبك على ذلك، بل وتعيرك به وكأنه عاهة أو نقيصة ينبغي أن تخجل منها أو بها. أما مجتمعات الحداثة التي تسودها دولة القانون والفكر المستنير فتعامل جميع مواطنيها على قدم المساواة أيا تكن أعراقهم أو أديانهم ومذاهبهم. ولا تفرق بينهم إلا طبقا لميزاتهم الشخصية وكفاءاتهم والخدمات التي يقدمونها للمجتمع. «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى»، كما يقول الحديث النبوي الشريف. أي لا فضل لإنسان على آخر إلا بمدى نزاهته واستقامته والعمل الصالح. لأجل ذلك ثار نيلسون مانديلا وضحى بكل شبابه وطمأنينته الشخصية، فكان له المجد والخلود.
ولكن هناك ميزة أخرى جعلته يحلق عاليا وينفصل عن الجاذبية الأرضية إذا صح التعبير، وهي أنه بعد خروجه من السجن الذي دام ثلاثة عقود تقريبا وامتلاكه ناصية البلاد والعباد صفح لجلاديه. لم ينتقم منهم، وكان بإمكانه أن يفعل، وإنما انتهج سياسة «الحقيقة والمصالحة» ووحد البلاد وجنبها الحرب الأهلية المدمرة. وبهذه الطريقة وجه الضربة القاضية لنظام الأبارتايد وأصابه في الصميم! لقد احتقره أيما احتقار عندما رفض أن ينزل إلى مستواه. هنا تكمن عظمة نيلسون مانديلا. لقد ارتفع فوق جراحاته. لقد انتصر على نفسه! لنتذكر عبارة النبي الأكرم، صلى الله عليه وسلم، بعد انتصاره عندما قدم فاتحا وقذف في وجه أهل مكة الذين عذبوه وحاربوه لسنوات وسنوات هذه الكلمات الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»! ولنتذكر كلمة السيد المسيح عندما قال عمن أرادوا قتله: «رباه اغفر لهم فإنهم لا يعلمون ما يفعلون». إنها معجزة كل العظماء على مدار التاريخ. العظيم لا ينتقم. يكفيه أن تنتصر قضية الحق والعدل التي هي أعز عليه من روحه، فهذا أكبر انتقام. ماذا يريد أكثر من ذلك؟ بهذا المعنى أقول إنه لا توجد شخصية بحجم مانديلا حاليا. قد توجد مستقبلا بعد قرن أو قرنين، ولكنها غير موجودة الآن. كان متوقعا أن يخرج من السجن وهو مليء بالحقد والرغبة العارمة في الانتقام. فإذا به يفعل العكس تماما وعلى شفتيه ابتسامة ساحرة خطفت العالم كله. وهذه هي أفضل طريقة للرد على العنصريين والطائفيين من كل الأنواع والأشكال. يقول القرآن الكريم: «فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين». ويقول الإنجيل: «أحبوا أعداءكم»! أكتب هذا الكلام وأنا أفكر بعالمنا العربي بطبيعة الحال، حيث يلزمنا 20 نيلسون مانديلا لإطفاء النيران التي اشتعلت في كل مكان. ولكن هناك نظرية تقول إن العالم العربي والإسلامي كله لن يتصالح مع نفسه إلا بعد أن ينفجر ويشبع انفجارا. ينبغي أن يفرغ كل ما في أحشائه من احتقانات تاريخية وتراكمات طال كبتها. وبالتالي فأوان «مانديلا العربي» لم يحن بعد.