فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الحيوية الفقهية والمستجدات الدنيوية

ثمة مسافة بين الفقه بتاريخه وحدثيته الظرفية، وبين انتقالاته عبر تعدد جغرافية المكان، وسيرورة الزمان. فمحتوى الفقه مجموع عمليات معالجة لحكم ديني على موضوع دنيوي بمجال عام. ولو عدنا لتاريخ الفقهاء الشخصي وتجاربهم الدنيوية لعثرنا على الأثر التجريبي في الصياغة الفقهية، ولو قرأنا ظروفهم الاجتماعية والسياسية لعلمنا عن كثب مسببات تشكل المذهب على هذا الشكل أو ذاك. ومن الواضح أن العزوف عن البحث التاريخي للنشأة الفقهية هو ما أسس للخلط بين الفقه والنص الديني، وهذا ما سبب الاشتغال على علل التشريع والحفر وراء القصد الشرعي وعلاقته بالمجتمع كما فعل الجويني والأبهري والآمدي والقرافي والشاطبي وآخرون، ملاحقين ومتقصين جذر العلاقة بين الفقه وسجالاته مع الواقع وظروفه وتحولاته.
إن مجتمعنا الآن يمر بتحولاتٍ كبرى تعتمد على اللحاق بركب العالم، وهذا يتطلب تشغيل كل صيغ التجديد بكل المجالات ومنها المجال الشرعي، وخصوصاً المنهاج الذي يتأسس عليه الاستنباط الفقهي، فالمسألة الفقهية استجابة لحدث بادٍ في الدنيا، ولهذا يشبّه السيوطي قول الفقيه برأي الطبيب، إذ إن مناطها مقتضى الحال، والإمام القرافي يربط الفقه بتجدد قضايا الناس ومشكلاتهم في شؤون دنياهم.
والفقه تختلف إلى مسائله إحراجات الواقع كما في المسائل المتعددة بالقول الواحد تبعاً لتعدد الأفراد وتنوع شرح الوقائع كما لدى أحمد بن حنبل المعتمد على الأثر، ولئن تم تعييره ونزع صفة الفقه عنه إلى الحديث كما فعل الطبري في كتابه «اختلاف الفقهاء» غير أن لاحقة تجاوزت النظرة التقليدية للحنبلية على النحو الذي قدمه جورج مقدسي - المستشرق الأميركي اللبناني الأصل - في محاضراتٍ أربع قدمها في «الكوليج دو فرانس» في ديسمبر (كانون الأول) عام 1969 وطبعت مؤخراً بترجمة سعيد المولى وتقديم رضوان السيد - وفيها تعديل على تصور بحثي كلاسيكي عن الحنبلية باعتبارها قليلة الأتباع وموغلة بالأثر على الأسس التأويلية كما فعل بقية الأئمة الثلاثة (إما عملاً بالأصول الفقهية أو التعليل أو الحفر بالمقصد الشرعي) ولكن الحنبلية المبكرة كانت موضع شرح من مقدسي يجعلها ضمن المذاهب المازجة بين الفقه والعقيدة تبعاً لإشكاليات التأويل ومعاول الاستنباط ومباني اللغة المنتجة للمعنى مما جعل المجاز مركزياً في السجالات جلها نفياً أو إثباتاً.
والفقه حليفُه التغيّر، كما يرى شهاب الدين القرافي في كتابه «الفروق»: «إذ تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد، وهو تحقق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه... وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجْرِه عليه وافته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين»، ومثله منقول عن أبي ليث والزيلعي والبلخي وأبي حيان التوحيدي (انظر تفصيلات ذلك لدى يحيى محمد في كتابه «جدلية الخطاب والواقع» ص 228).
المحاولة الضرورية والحرب المشروعة الآن تعتمد على مستويين؛ أولهما استكمال القوة التأصيلية التي دعت لإعادة حيوية فعالية الفقه مع الواقع ضمن تدخلاته المحدودة، والمستوى الآخر تحرير الفقه من الآيديولوجيا.
لقد خاض أبو إسحاق الشاطبي في القرن الرابع عشر الميلادي سجالاتٍ قوية معروفة لتضييق تدخل الفقه وتحكمه بالدنيا عبر إعادة تفسير الأحكام التكليفية والنظر إلى المباح بوصفه المجال الأرحب بدنيا الإنسان ومنطلقاً من البراءة الأصلية وخص الجزء الأول من كتابه «الموافقات» بكامله للبحث في «مسائل المباح» وبه دافع عن البراءة الأصلية المنطلقة من كراهية قرآنية ونبوية لكثرة السؤال نافياً الحكم عن المباح بسبب كونه مجال عفو غير محكوم بالفقه، وإنما ضمن دنيا الإنسان الضرورية وترك المباح مجرد اختيار و«فعل المباح أو تركه لدى الشارع متساويان»، فالمباح هو الحرية وهو الاختيار وهو الواقع المدني المعيش وضوابطه دنيوية وليست شرعية كما يقول نصاً: «على أن ترك المباح ليس طاعةً كما أن فعله ليس طاعةً» مفسراً ذلك بعدة أوجه. (انظر الموافقات، ج1 / ص107).
وعليه فإن المباح ليس حكماً يدور حوله الثواب أو العقاب.
تلك مرافعات من أئمة تبتغي تعزيز مستوى حيوية الفقه، ولكن يجب أن يضارع خطط التطوير تلك دعم المؤسسات الرسمية، للارتقاء بسبل الفتيا لصناعة فقه أنيق يساعد على النهضة بالواقع من الدمامات إلى التجدد والتحديث، وهذا ما ينظّف الفقه من الاحتلال الآيديولوجي ويرسخ مناعته ضد جماعات الإسلام السياسي ومنظمات العنف، وبخاصة في ظل تجدد السعودية واتجاهها نحو التطور المدروس والذي يتطلب تطوراً محايثاً وحيوياً من كل المجالات الأخرى ومنها الفقه.
من قبل نصح ابن عابدين الفقهاء والمفتين قائلاً: «إن المفتي ليس له الجمود على المنقول في كتب ظاهر الرواية من غير مراعاة الزمان وأهله، وألا يضيع حقوقاً كثيرة فيكون ضرره أكثر من نفعه».