انسحب الرئيس ترمب من خطة العمل الشاملة المشتركة الخاصة بالاتفاق النووي الإيراني، وبذلك ترك الباب مفتوحاً أمام إمكانية إعادة التفاوض حول الاتفاق مع الإيرانيين، ولكنه اعترف أيضاً بأن ذلك ليس مرجحاً على المدى القريب. وفي ظل تأكيد الأوروبيين على استمرار التزامهم بالاتفاق النووي وتوضيح عزمهم على فتح خط ائتماني للإيرانيين وتقديم تشريع لحماية الشركات الأوروبية التي تقيم أنشطة تجارية مع إيران، من المرجح أن تواجه إدارة ترمب صعوبة على الأقل في البداية في ممارسة الضغط على الجمهورية الإسلامية بطريقة قد تُحدث اختلافاً.
إن الضغط الجماعي وفرض العزلة على إيران هما ما جلبا الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات في عهد إدارة باراك أوباما. وذلك جدير بالذكر لأن القيادة الإيرانية كانت تدعي أنها لن تتفاوض مطلقاً على برنامجها النووي طالما استمرت العقوبات، مع أنه عندما كثفت إدارة أوباما العقوبات، جاء الإيرانيون وتفاوضوا. يمكن القول إن إدارة أوباما خففت الضغط مبكراً، ولكن تجدر الإشارة إلى أن العقوبات المالية التي أصبحت أكثر مشقة بسبب قرار مجلس الأمن رقم 1929 لم ينتج عنها حضور الإيرانيين للتفاوض، بل كان قرار الاتحاد الأوروبي بعدم شراء النفط الإيراني هو العنصر الحاسم.
هل يضطر الأوروبيون، بسبب خوفهم من عقوبات ثانوية أميركية ومن التهديد بعدم تمكنهم من إقامة علاقات تجارية مع الولايات المتحدة إذا تعاملوا تجارياً مع البنك المركزي الإيراني، إلى مقاطعة النفط الإيراني مرة أخرى؟ على عكس ما حدث في عام 2012. عندما أصدر الأوروبيون قرار مقاطعة النفط الإيراني، كانوا يعتقدون أنه الوسيلة الوحيدة التي يمكن اتباعها لتحقيق نتيجة دبلوماسية ولتجنب الحرب. أما اليوم، فهم يركزون على إبقاء إيران في خطة العمل الشاملة المشتركة والاستمرار في وضع حدود للبرنامج النووي الإيراني كوسيلة لتجنب الحرب. تعتقد إدارة ترمب، وهي محقة في ذلك، أن الأوروبيين يشتركون مع أميركا في هدف منع الإيرانيين من الحصول على سلاح نووي؛ ولكن المشكلة هي أنهم يخشون أن يصبح انسحاب إيران من الاتفاق عودة لاستكمال البرنامج النووي الإيراني ويكون حيئنذ الخيار العسكري هو الوحيد المتاح لإيقاف الإيرانيين.
النتيجة هي أن الأوروبيين يركزون بالفعل على الحوافز التي يستطيعون تقديمها إلى إيران للبقاء في الاتفاق. وربما يكون الخوف من أن أميركا سوف تحاول بالفعل إجبارهم على الاختيار ما بين إقامة علاقات تجارية مع إيران أو مع أميركا دافعاً للأوروبيين للتخلي عن موقفهم الراهن. لا شك في أن الكثير من الشركات الأوروبية سوف تقرر عدم خوض مخاطر التعرض لعقوبات اقتصادية من الولايات المتحدة إذا أقامت مشروعات في إيران. ولكن الأمر المهم هو ما إذا كان ذلك سوف يمنع أوروبا من شراء النفط الإيراني، ذلك ليس مفترضاً، وليس من المفترض أيضاً أن إدارة ترمب ترغب في إشعال حرب تجارية مع أوروبا.
ولكن المفترض أن الأوروبيين في أثناء سعيهم إلى تشجيع الإيرانيين على البقاء في الاتفاق النووي، خاصة أن الإيرانيين يستغلون مخاوفهم من تبعات انسحاب إيران من الاتفاق، لن ينضموا إلى الولايات المتحدة في محاولتها لزيادة الثمن الذي تتكبده إيران مقابل سلوكياتها المُهَدِدة والمزعزعة لاستقرار المنطقة. وفي مفارقة، على الرغم من كل أوجه القصور التي تشوب خطة العمل الشاملة المشتركة، فإنها أرجأت التهديد النووي الإيراني. وفي حين سيؤدي الإيرانيون دور الضحية في الاتفاق النووي كوسيلة لزيادة الهوة بين أميركا والأوروبيين، من غير المرجح أنهم سوف يحدون من تهديداتهم في الشرق الأوسط. في الحقيقة ربما يستخدمون عملاءهم بدلاً من التحرك المباشر حتى لا تزداد الصعوبة على الاتحاد الأوروبي في تبرير موقفه بعدم الانضمام إلى أميركا في الضغط على الإيرانيين. ولكن من خلال الميليشيات الشيعية والعملاء، مثل الحوثيين وحتى «حماس»، يمكن للإيرانيين أن يشعلوا الأوضاع في المنطقة. ويستطيع المرء أن يتوقع أنهم سيفعلون المزيد سعياً إلى إطالة أمد الحرب في اليمن؛ وسوف يفعلون ما في وسعهم لكي تحاول «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في غزة خرق السياج الحدودي مع إسرائيل والتسبب بانفجار الوضع، ولممارسة الضغط في جنوب سوريا على طول الحدود مع الأردن.
ونظراً لما أظهرته إسرائيل من استعداد وقدرة على مهاجمة البنية التحتية العسكرية والصاروخية لإيران في سوريا بكفاءة، من المرجح أنهم سوف يركزون على نحو أكبر في الوقت الحالي على تعزيز قوتهم داخل الدولة. كذلك، من المحتمل أن يحاولوا على المدى القريب الاستفادة من الدروس التي كشفت عنها كفاءة الضربات الجوية الإسرائيلية قبل البدء مرة أخرى في البحث وتوسعة وجودهم في سوريا. ومع ذلك يظل خطر إساءة التقدير من جانب الإسرائيليين والإيرانيين قائماً بقوة، وسوف يزداد حدة عندما يختبر الإيرانيون حتماً حدود التحمل الإسرائيلي.
يتطلب الأمر من إدارة ترمب أن تضع استراتيجية «الأيام التالية» ضمن سياسة ما بعد الانسحاب من الاتفاق النووي. يجب أن لا يكون هناك نهج بشأن المسألة النووية يسعى لضمان ممارسة ضغط جماعي على إيران فحسب، بل يجب أن تكون هناك أيضاً سياسة واضحة لمواجهة الإيرانيين وتحركاتهم المحتملة في المنطقة. في الواقع إذا أرادت الولايات المتحدة أن تبذل دول الخليج المزيد أو أرادت أن تعطي الروس سبباً لاحتواء الإيرانيين في سوريا، يجب أن يرى الجميع ما الذي تستعد لفعله. ما هي الخطوات التي ستتخذها؟ هل ستفعل المزيد لمنع شحن أسلحة إيرانية إلى الحوثيين، وهي شحنات تنتهك قرارين صادرين من مجلس الأمن؟ هل ستظل سياستها في سوريا خاصة بـ«داعش» فقط أم أنها ستركز على التوسع الإيراني سواء بالاستعداد بفاعلية لرفع التكلفة التي تتكبدها إيران أو بالسعي إلى تفاهم على الخطوط الحمراء مع الروس بشأن قواعد اللعبة في سوريا؟
في الأساس تحتاج إدارة ترمب إلى سياسة واضحة تجاه إيران لا تنشغل بالحديث عنها فقط، بل تنفذها بالفعل.
8:2 دقيقه
TT
استراتيجية «الأيام التالية» بعد الانسحاب من «النووي»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة