نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

الآلة السبيل الأمثل لتوقع الركود

من اللافت أن الاقتصاديين الأكاديميين المعنيين بالاقتصاد الكلي لا يكادون يقْدمون أبداً على إطلاق توقعات بخصوص هذا الاقتصاد. وربما يبدو هذا الأمر متعذراً على التصديق بالنسبة إلى الغالبية، لكنه حقيقي، وليس عليكم سوى النظر إلى أي صحيفة اقتصادية تهتم بالاقتصاد الكلي، وسترون بأنفسكم أن احتمالات إقدام أحد الكتّاب على إطلاق توقعات بخصوص الاقتصاد الكلي ضئيلة للغاية. وثمة واحد أو اثنان من الخبراء الاقتصاديين أبديا اهتمامهما بهذا الأمر والأسباب الكامنة وراءه، علاوة على عدد ضئيل من الدراسات الواعدة. الملاحظ أن الغالبية الكاسحة من الأبحاث تدور حول توقع تأثيرات السياسات، وليس توقع ما سيحدث بالفعل.
وقد يرى كثيرون في هذا الأمر تقصيراً من جانب هؤلاء الخبراء تجاه الاضطلاع بواجبهم، خصوصاً أن الكثيرين يرون أنه ينبغي للخبراء الاقتصاديين التحلي بالقدرة على إدراك قرب وقوع حالة ركود، أو على الأقل يحاولون ذلك.
من ناحيتهم، يطرح اقتصاديون أكاديميون تفسيرات متنوعة للسبب وراء عدم اهتمامهم بتوقع موجات الركود، لكن يكمن السبب الجوهري في أن هذه المهمة شاقة للغاية. على خلاف حالة الطقس، فإن علم الاقتصاد الكلي يقتصر على عدد ضئيل من العوامل المتغيرة مثل إجمالي الناتج الداخلي والاستثمار والاستهلاك والأسعار الاستهلاكية.
وعلى خلاف حالة الطقس، حيث تعتمد النماذج على قوانين الفيزياء، فإن علم الاقتصاد الكلي لا يملك سوى تفهم واهٍ للسلوك البشري الفردي. حتى أكثر نماذج الاقتصاد الكلي الحديثة، فإنها لا تقدم توقعات اقتصادية أفضل عن النماذج الأخرى شديدة البساطة المعتمدة على معادلة واحدة.
وبغضّ النظر عن حقيقة السبب، تظل الحقيقة أن حقل التوقعات المتعلقة بالاقتصاد الكلي أصبح اليوم حكراً على مسؤولي البنوك المركزية والمسؤولين الحكوميين والاقتصاديين في مجال القطاع الخاص والاستشاريين. إلا أنه من الضروري أن يحاول أكاديميون العودة إلى المجال، خصوصاً أن ثمة أداة جديدة وقوية أصبحت متاحة. وتكمن هذه الأداة في التعلم الآلي.
بوجه عام، يشير التعلم الآلي إلى مجموعة من سبل اللوغاريتمات التي تركز على توقع الأشياء بأكبر دقة ممكنة، بدلاً من الإحصاءات التقليدية. أيضاً فإن لوغاريتمات التعلم الآلي تعطي بصورة عامة الحرية اللازمة لصياغة نموذج خاص بالمرء. أما الجانب السلبي في الأمر فيكمن في أنه غالباً ما يكون من الصعب تحديد السبب وراء طرح اللوغاريتمات للتوقعات التي طرحتها. أما الجانب الإيجابي فهو أن هذه التوقعات بصورة عامة عادةً ما تكون أكثر دقة عن نظيراتها التقليدية. وخلال السنوات الأخيرة ظهر نمط جديد من اللوغاريتمات عُرف باسم «التعلم العميق» نجح في تحقيق قفزات كبرى في عدد من المجالات. وبمقدور لوغاريتمات التعلم العميق التفوق على البشر في عدد من الألعاب المعقدة وتشغيل السيارات ذاتية القيادة.
من جانبهم، يميل الاقتصاديون نحو الأدوات الجديدة، الأمر الذي ينطبق على التعليم الآلي. وقد نجح باحثون أمثال سوزان أثلي وغيدو إمبينز وسندهيل مولاينثان في ابتكار سبل لاستغلال اللوغاريتمات في المعاونة في تحسين الأساليب الإحصائية المستخدمة في تحديد السبب والنتيجة في الإطار الاقتصادي.
في الواقع، تبدو مسألة توقع موجات الركود أشبه بمهمة طبيعية من مهام التعلم الآلي. من جانبهم، يرى البعض أنه نظراً إلى أن الاقتصاد بطبيعته نظاماً فوضوياً، فإن مساعي توقع تحولاته بصورة رياضية لا تعدو كونها محاولات ساذجة لإنجاز مهمة مستحيلة. إلا أنه في حقيقة الأمر من المعروف أن أساليب التعلم الآلي نجحت في تحقيق إنجازات كبيرة ومثيرة للدهشة في توقع أنظمة فوضوية على نحو أفضل بكثير من التوجهات الرياضية التقليدية.
ومع هذا، فإن التوسع الهائل في تكنيكات التعلم الآلي فشل حتى الآن في إحياء جذوة الاهتمام بطرح توقعات بمجال الاقتصاد الكلي داخل الحقل الأكاديمي. ومع هذا، يبقى هناك بعض الاستثناءات، مثلما حدث عام 2016 عندما طبّق العالمان الاقتصاديان البريطانيان ريكارد نيمان وبول أورميرود، تكنيك تعلم آلي يُعرف باسم «راندوم فوريس» على محاولة التوقع بموجات الركود، وخلصا إلى نتائج إيجابية.
وتبدو مثل هذه الجهود مشجعة للغاية، لكنها تبقى جهوداً متفرقة ومنعزلة بعضها عن بعض. وحتى هذه اللحظة، لم تقرّ الأسماء اللامعة في مجال الاقتصاد الكلي فكرة أن ثمة تكنيكات جديدة بإمكانها تغيير قواعد اللعبة بأكملها في ما يخص توقعات موجات الركود، الأمر الذي قد يساعد بدوره في صياغة السياسات النقدية على نحو أفضل.
ومع تطور الأدوات، تتغير العلوم. لقد تخلى الحقل الأكاديمي الاقتصادي في معظمه عن مهمة توقع الركود، لكن الازدهار الذي يشهده التعلم الآلي ربما يمنحنا سبباً وجيهاً لبذل محاولة جديدة على هذا الصعيد.
- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»