نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

أفضل ما يحدث للابتكار

أحد أكثر الأفكار رعباً في العالم هو احتمال أن يتلاشى التقدم التكنولوجي تماماً. ومن دونه، لن تكون هناك إمكانية للتوسع الاقتصادي على المدى البعيد، أو التحسن المستمر في الظروف الإنسانية. وتنبني المجتمعات والاقتصادات الحديثة على افتراض النمو المتواصل، لكن حتى مع إعادة تنظيمها للاتساق مع العالم الثابت، فقد يكون الناتج سيئاً للغاية. والعودة إلى العالم الصفري الخاسر يعود بنا إلى الحروب المستمرة والفتن القميئة التي سادت في الماضي البعيد، عندما كانت الوسيلة الوحيدة للازدهار هي على حساب الآخرين.
لكن ما نعني ببطء الابتكار؟ التكنولوجيا لا تتعلق بشيء واحد فحسب – فقد يكون التقدم سريعاً في بعض المجالات وبطيئاً في مجالات أخرى. ويقيس خبراء الاقتصاد في المعتاد المستوى العام للتكنولوجيا في المجتمع من خلال مراقبة الإنتاجية الكلية للعوامل، وهو المقياس الذي ينظر في مقدار الإنتاج الاقتصادي بالنسبة إلى مدخلات رأس المال والعمالة. ونشهد هنا تباطؤاً عالمياً في البلدان المتقدمة منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي.
والإنتاجية ليست هي التكنولوجيا على أي حال – فهي تضع في الاعتبار المؤسسات أيضاً، مثل الضرائب والبنية التحتية. لكن حقيقة أن هناك تباطؤاً فعلياً واقعاً في الكثير من البلدان، في وجود مؤسسات مختلفة للغاية، يشير ضمنياً إلى أن شيئاً أعمق من مراوغات السياسات المحلية يدور في الكواليس.
وأحد الاحتمالات أن ارتفاع الخدمات الرقمية المجانية يؤدي إلى التقليل من الإنتاجية، حيث إن الأرقام الرسمية لا تشتمل على قيمة الأشياء التي يحصل الناس عليها مجاناً. لكن حتى وإن كان ذلك صحيحاً، تظهر أبحاث الخبير الاقتصادي تشاد سيفرسون، أن إضافة العوامل المفقودة من الإنتاجية ليس من شأنه أن يغير كثيراً من أحداث الرواية.
والاحتمال الأكثر تشاؤماً هو الصعوبة المستمرة في العثور على الأفكار العلمية والتكنولوجية الجديدة. ولقد أثار هذا الاحتمال زميلي في وكالة «بلومبيرغ» الإخبارية تايلر كوين في كتابه المنشور عام 2011 بعنوان «الركود العظيم». ولقد تطرق الخبير الاقتصادي روبرت غوردون إلى تلك التيمة بعد خمس سنوات في كتابه المعنون «صعود وهبوط النمو الأميركي».
وتكمن الفكرة المخيفة في أن التكنولوجيا سهلة الاكتشاف من الموارد المحدودة والمتناقصة. يمكنك اشتقاق بعض من قوانين الفيزياء الأساسية عن طريق دحرجة الكرات على أسفل المنحدر نحو منزلك. كما يمكنك استنتاج فكرة الميراث البيولوجي من خلال اللعب مع نباتات البازلاء في حديقة منزلك. وذلك لأن هذه الأشياء يسهل البحث بشأنها، كما يسهل اكتشافها أولاً. لكن تطوير بطاريات أيونات الليثيوم، أو التقنية العصبية الصعبة للغاية، أو العلاج بالجينات الوراثية فإنه يتطلب المئات أو الآلاف من الباحثين الذي يتدفقون موزعين عبر شبكة ضخمة من المختبرات الأكاديمية والحكومية ومختلف الشركات حول العالم، إلى جانب بلايين الدولارات من المعدات المتقدمة. وبمجرد التقاط ثمرة الكون المتدلية، فإن الأمر سوف يستهلك المزيد من الأموال والقوة البشرية لالتقاط الثمرة التالية.
ولقد حظي هذا الاحتمال الرهيب ببعض الدعم والتأييد من دراسة جديدة أعدها خبراء الاقتصاد نيكولاس بلوم، وتشارلز جونز، وجون فان رينين، ومايكل ويب، وكانت تحت عنوان «هل يصعب حقاً العثور على الأفكار الجديدة؟» لقد بحثوا في مختلف المجالات في تخصصات مثل أشبه الموصلات، والزراعة، والطب، وخلصوا إلى أنه مع التقدم المطرد والمستمر، إلا أن مواصلة التقدم تستلزم جيشاً متزايداً من الباحثين. ويصح هذا الأمر، سواء كانت الإنتاجية تُقاس بالمعايير الاقتصادية، أم وفق شروط أكثر واقعية مثل غلة المحاصيل الزراعية، والاكتشافات الجديدة في الأدوية، أو كثافة وحدات الترانزستور في رقاقات الحاسوب، أو عدد المطبوعات والمنشورات الأكاديمية.
حتى قانون مور الأسطوري – وهو ميل عدد وحدات الترانزستور في الدائرة المتكاملة للتضاعف مرة كل 1.5 إلى عامين – يستلزم عدداً متزايداً من الباحثين في مجال أشباه الموصلات.
أعتقد أن دراسة السيد بلوم وشركاه ترسم صورة شديدة القتامة. ففي واقع الأمر، لا تنمو التكنولوجيا فقط عبر تحسين المنتجات والأفكار القديمة، وإنما من خلال اختراع المنتجات الجديدة والخروج بأفكار جديدة تماماً – فالتقدم يسير على المسار الكمي والنوعي في الوقت نفسه. والابتكار يعد نوعاً من البحث العميق – والباحثون دائماً ما يعترضون سبل الأفكار الجديدة التي يستغلونها بسرعة فائقة، في حين أن الأفكار القديمة تصير مستهلكة وعفى عليها الزمن. قبل أربعين عاماً، كانت المجالات مثل العلاج بالجينات الوراثية والتعلم الآلي من المجالات شديدة التخصص، في حين أن أبحاث الطاقة الشمسية كانت عالقة في الأوضاع البطيئة بسبب ارتفاع التكاليف. أما الآن، باتت هذه المجالات من أهم مجالات البحث والدراسة في العلوم كافة. ومن خلال إيلاء المزيد من التركيز على الأفكار القديمة والناضجة من أجل الابتكار المتزايد، يقلل السيد بلوم وشركاه من أهمية الأفكار الجديدة.
لكن رغم ذلك، فإن الأرقام على مستوى الاقتصاد ككل غير مشجعة بحال. حيث يزداد عدد الباحثين في الوقت الذي ترتفع فيه الإنتاجية؛ مما يشير إلى أن الموارد القديمة للتقدم التكنولوجي قد استنفدت بوتيرة سريعة من اكتشاف الموارد الجديدة الثرية. ويستحق التقدم المذهل في عدد قليل من التكنولوجيات فائقة المستوى المزيد من التشجيع، لكنها لا تعوض بالضرورة عن التباطؤ الواضح في عدد أكبر بكثير من المجالات الأقل جاذبية.
وإن كان هذا هو الحال، فما الذي يمكن للبشرية فعله؟ هناك مجال مفتوح لإجراء التحسينات الهامشية في برامج الأبحاث. وعملية الموافقة على المنح يمكن تعديلها بهدف تشجيع الأبحاث التحويلية المحفوفة بالمخاطر مقابل الرهانات البحثية الآمنة، أو تقليل الوقت الذي يخصصه العلماء في كتابة اقتراحات المنح. يمكن للدول الثرية أن تقبل المزيد من المهاجرين الماهرين من البلدان الفقيرة، حتى يستطيعوا الوصول إلى المختبرات جيدة التمويل بصورة أفضل. ويمكن إصلاح نظام براءات الاختراع بحيث ألا تعرقل البراءات الجديدة المزيد من الابتكار.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»