د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

هيمنة الخواطر الفكرية على الفكر العلمي!

إنّ الفكر مكون أساسي من مكونات المعرفة التي تنتجها المجتمعات الإنسانية. وميزة هذا المكون أنّه شديد الولاء للعقل، ويقوم على إعمال العقل. وتسمى هذه العملية التفكير الذي منه الفكر. فالمكونات الأخرى مثل الآداب والفنون مثلاً تجمع بين معرفة الوجدان والروح والعقل، والذاتية فيها علامة تفرد وتميز خلافاً للفكر، الذي يتحصن بالموضوعية لعدم السقوط في الذاتية.
غير أنه على امتداد السنوات الأخيرة نلحظ خرقاً صريحاً لشروط العمل الفكري عند البعض. وهي ملاحظة تسترعي الانتباه بشكل متصاعد من سنة إلى أخرى، ونتوقف عندها لتأكيدها، خصوصاً في معارض الكتاب، حيث تتجمع الأعمال التي نقصدها ويسمح لنا تجمعها في معارض الكتاب العربية بالحديث عن ظاهرة إنتاج كتب تدعي أنّها كتب فكرية، وهي في تقديرنا من العنوان إلى مضمون الكتاب كتابة تندرج ضمن الشتم والسب.
والخيط الجامع بين هذه الكتب أنّها تنضوي ضمن المسألة الدينية العقائدية أساساً. أي كتب حول النقد الديني. كما أن غالبية كُتّاب هذه الأعمال هم من خارج الكتابة الأكاديمية العلمية، وبعضهم صحافيون. وهذا لا يعني تقليلاً من شأن الصحافيين فهم يصنعون الرأي العام، ويشكلون بتأثير أقوى من الجميع الاتجاهات. ولكن هناك فرقاً بين العمل الإعلامي وبين العمل الفكري، خصوصاً عندما يندرج العمل الإعلامي ضمن الأعمال الفكرية، حتى ولو كان ذلك العمل يقدم تحليلاً ورأياً. فشروط العملين مختلفة، وهذا لا ينقص من العمل الإعلامي شيئاً، ولا يزيد في العمل الفكري شيئاً أيضاً. المهم عدم الخلط، والتمييز هنا ليس تفاضلياً. أيضاً تحظى هذه الأعمال، التي تتوسل الشتم وإحداث الصدمة وإظهار الشجاعة الفكرية بدعايةٍ وترويجٍ لا تتمتع بعشره الكتبُ ذات الصرامة والفائدة العلميّتين.
طبعاً ليس الغرض من هذه الملاحظات غلق الباب أمام التفكير، وجعله حكراً فقط على الباحثين الأكاديميين. فالفكر إبداع وأحياناً يلتقط الفاقد للأدوات العلمية ما يعجز عن الوصول إليه صاحب أعلى الدرجات العلميّة. بل إنّ كل الكتابات مفيدة ومهمة، وهي دليل ثراء وتنوع في الرؤى والمقاربات.
ولكن ما يستحق النقاش فعلاً هو الجمع بين الفكر وبين خطاب الشتم والسب. فطبيعة الخطابين مختلفة. كما أن هذا النوع من الكتابة يعد من المنتوجات الضارة، خصوصاً أنّها تحظى بقابلية عالية للاستهلاك.
المشكلة أن هذه الأعمال التي تقوم على سب الرموز والطعن في مفاهيم رئيسة اختزنتها الذاكرة، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى نتائج عكسية. فالفرق بين النقد وبين التحقيق التاريخي بإظهار أدلة ومعطيات تشكك في وثوقية أفكار رئيسة متوارثة هو الدرب الأسلم. بمعنى آخر النقد ليس سباً وشتماً. كما أن النقد ليس فعلاً انفعالياً، بل هو سليل العقل والعقلانية. وظيفة الفكر العقلنة. وعندما ينقلب الحقل الفكري على وظيفته الأصليّة، فإن ذلك دليل تقهقر ثقافي حقيقي.
لا ننكر أن هناك مواضيع غاية في الطرافة والدقة انتبه إليها العديد من هؤلاء الكتاب، ولكن يبدو لنا أن اختيار تلك المواضيع هو من أجل صناعة «البوز» الفكري، وجلب الانتباه وإثارة الفضول لشراء الكتاب لا لقراءته والتفاعل معه على نحو مفيد.
المشكلة أيضاً أن هذه الأعمال علمياً تشكو من ضعف واضح، ولكنها تلقى الترويج الإعلامي الهائل وصمت المفكرين الحقيقيين. فالمفروض أننا في لحظة ثقافية حرجة تحتاج إلى تكثيف الجهود لبناء خطاب عقلاني قوي يخاطب العقول، ويحملها إلى حيث الأسئلة والتفكير الباحث حقاً عن الحقيقة مهما كانت دون أفكار مسبقة وخلفيات آيديولوجية مستبطنة. ولا ننسى أن هناك مفكرين كباراً قد عبدوا الطريق لخطاب الفكر الموضوعي العلمي أمثال محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وهشام جعيط ومحمد الطالبي ومحمد آركون وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وغيرهم كثير. إن هذه القامات الفكرية، التي تعاطت مع النقد الديني من زاوية التاريخ وعلوم الدين والحضارة لم تتوانَ عن ممارسة النقد، ولكن بأدوات علمية. هي أعمال انتقادية بامتياز، ولكن دون سب وشتم.
فميزة البحث العلمي في تبريراته العلمية لغة وبراهين، التي ترافق القارئ من أول كلمة حتى الكلمة الأخيرة. البحث العلمي يتبنى استنتاجات نسبية بلغة تتوخى الحذر. أما بعض الكتابات الراهنة التي تُقدم تحت عنوان الكتب الفكرية، والتي تنضوي ضمن النقد الديني فهي عالية النبرة والصوت تقوم على الفكرة الفرقعة، لا على السؤال والإشكالية والمنهج العلمي والأدوات العلمية والكتابة الهادئة الرصينة الحذرة والاستنتاجات غير المحسومة.
أحياناً نتساءل كيف تُقدم بعض دور النشر على نشر أعمال تطرح قضايا خطيرة ومهمة دون منهجية علمية.
ما يحز في النفس حقاً أنه بعد عقود من الكتابات الفكرية العلميّة المعمقة ننتقل إلى ما نسميه مرحلة هيمنة الخواطر الفكرية. ولكن أصحاب هذه الخواطر الفكرية يصرون على أنهم مفكرون.
إن هذه الأعمال التي تتبنى منهجية الصدمة وأدوات الإثارة من خلال اختيار الموضوعات والتفنن في اختيار العناوين الجذابة، تزيد من حدة الأزمة الثقافية التي نعيشها، وتنعش الانفعالات والنقاشات الآيديولوجية العنيفة، وتمسح ما بناه المفكرون الكبار على امتداد أربعين عاماً أو أكثر منذ بداية الخمسينات وبناء الدول العربية المستقلة.